مجلة العودة

الحاج صلاح جبول (أبو رائد) شاهد على النكبتين

الحاج صلاح جبول (أبو رائد)
شاهد على النكبتين

أحمد الباش / القاهرة
 

التقيته أمام مجمع التحرير في ميدان التحرير في القاهرة، كانت علامات الإنهاك والتعب بادية على وجهه الحزين، وتجاعيد وجهه الشاحب تدلّ على مرارات السنين وعذاباتها، ووجهه الحنطي يتكلم على حال الفلسطيني المشرد من منفى إلى آخر.

كل واحد في بلد

هذا هو الواقع الذي شرحه لنا الحاج السبعيني أبو رائد جبول. كانت لهجته ونبرة صوته تعرفك به ومن أين هو. يسأله أحد المصريين الواقفين بجانبه: الحاج سوري؟ يقول له: أنا فلسطيني سوري يردّ عليه باستهجان: وكيف ذلك؟ أنت سوري أم فلسطيني؟ يكرر له: أنا فلسطيني سوري. يا حاج... يقاطعه العم أبو رائد، ويقول له: أنا فلسطيني مهجَّر منذ عام 1948 من فلسطين إلى سورية، ومنذ خمسة وستين عاماً أعيش فيها؛ فلذلك يطلقون علينا نحن حملة الوثائق السورية مصطلح الفلسطيني السوري.

أثار حفيظتي ذاك الرجل، فقررت اقتحام عوالم شخصيته القوية تلك، لأستمع منه عن شجون وآلام يختزنها.

مرحباً ياعم... يردّ بحشرجة في صوته: أهلاً يا بُنيّ. من أين العم؟ من أيِّ مخيم أنت في سورية؟ قال: أنت فلسطيني؟ قلت له: نعم يا عمنا الحاج. أنا من مخيم الحسينية، فأقبل عليّ يقبّلني ويبكي، قائلاً: أنا من مخيم اليرموك يا بُنيّ.

ماذا تفعل هنا يا عمّ؟ جئت لأتقدم بتأشيرة دخول لولديّ العالقين في لبنان، لم يعطيا تأشيرة دخول إلى مصر، رغم محاولاتهما المتكررة للحصول عليها. أريد أن يأتوني هنا هم وعائلاتهم للاطمئنأن إليهم.

أليس لك أبناء آخرون: بلى، لي ثمانية أولاد، ستة ذكور وبنتان. ابني الكبير الذي تجاوز الأربعين من العمر بقليل دخل هو وأمه إلى مصر، ومن ثم غادرا إلى ليبيا قبل ثلاثة أشهر، وأنا أتيت بعائلته وأولاده لألحق بهم، ولكن أُقفلت الحدود في وجهنا نحن الفلسطينيين حملة الوثائق السورية، ما اضطره إلى العودة مع أمه إلى هنا، وقد لاقى ما لاقاه هو وأمه من صعاب في طريق عودتهم عبر الصحراء الرملية بين ليبيا ومصر. ابني الثاني ذهب منذ سنة إلى السويد من طريق البحر، ولاقى ما لاقاه في تلك الرحلة، وكاد يغرق في البحر بين تركيا واليونان. والثالث منذ أيام ذهب إلى تركيا أيضاً، وبعد عناء كبير وصل هو وزوجته التي تزوجها منذ أيام إلى هناك، وعلمت أنه لم يجد عملاً حتى الآن، وأوضاعه هناك سيئة للغاية. والرابع اتخذ هو وزوجته وابناه وشقيقته وأولادها الثمانية من مخيم خان الشيح ملجأً لهم، فسكنوا إحدى المزارع التي تعرضت للقصف منذ أيام، ولا أعرف عنهما شيئاً. ابنتي الثانية لحقت بأخويها إلى لبنان، مصطحبة أولادها الستة، وتريد أن تلتحق بنا إلى هنا من دون زوجها المحكوم بوظيفته، خوفاً من أن يفقد راتبه الذي يوفّر له قوت أولاده، وكان قد قرر البقاء في المخيم ليعاني ما يعانيه من أبناء المخيم المحاصرين من قتل وقنص وجوع وخوف ودمار ومهانة.

ثمانية أولاد وأمهم، وأولادهم، كل واحد منهم أصبح في بلد. تشتتنا يا ولدي. وأجهش بالبكاء والنحيب.

خوف من المجهول

يتابع العم أبو رائد قائلاً: كل ما أخشاه يا بُنيّ اليوم أن تتكرر نكبة عام 1948، ولا نستطيع بعدها أن نجتمع من جديد. اصبر ياعمّ، لعل الفرج قريب إن شاء الله، وسيتحقق لك ما تريد. وبكلمة فلسطينية لم أسمعها منذ زمن بعيد، أجاب: "على واه، يا مندرة" أمنيات نطلقها يا بنيّ، قالوا لنا ذلك منذ خمسة وستين سنة، وإلى الآن ونحن ننتظر.

يا عمّ، ألهذا الحدّ ترى في ما حصل لنا في مخيماتنا أخيراً، نكبة أخرى كالتي حصلت عام 1948؟ ردّ قائلاً: وأكثر يا بُنيّ. إنها أشدّ مرارة وأقسى على القلب. لم يكن تشردنا وقتها بهذا الاتساع في دول العالم. لم يتجاوز بعدنا عن قرانا ومدننا في فلسطين خمسين كيلومتراً. ولكن الأولاد اليوم اخترقوا الحدود البعيدة، ركبوا البحار، وتجاوزوا القارات، وسيصبح لهم عمّا قريب عالمهم الخاص بهم وباولادهم، ويكون من الصعب عودتهم إلينا، وسننتظرهم كما انتظر أبي وأمي أخوة لهم وأخوات، وأخوال وأعمام وعمات وخالات، كانوا قد تفرقوا عنهم في الأردن ولبنان وفلسطين التي أصبحت تحت الاحتلال. انتظرواكثيراً لعلّ ذاك اليوم يأتيهم ويجمعهم من جديد، في قريتنا ناصر الدين في قضاء طبريا، ولكن عبثاً، فقد ماتا وفي داخلهما حسرة الغربة والتشرد وضياع وحلمهما بالعودة.

مشهد النكبة الأولى

وبزفرات ملؤها القهر والألم والمرارة، يقول الحاج أبو رائد: لقد شاهدت النكبة الأولى يا ولدي. كنت في الثامنة من عمري حينها، وكأن المشهد حاضر أمامي، في ذاك اليوم الذي خرجنا فيه من قريتنا ناصر الدين، كنت أركب الحمار أنا وأختي وأخي الصغير، وعمّي يحمل جدتي العجوز على ظهره، وأبي وأمي يحملان ما تسنّى لهما حمله من الأمتعة، وهم يجهشون بالبكاء على فراق الأرض والبيت، وبالبكاء على من سقط من أفراد عائلتهم وعشيرتهم في المجزرة البشعة التي ارتكبها الصهاينة المجرمون بحقهم. كنت أنظر إليهم وكأني أراهم يودّعون أرضهم وقريتهم وداع المفارق الذي لا رجعة له.

ما زلت أذكر يا بنيّ تلك المجزرة الرهيبة في قريتنا. لقد قتل منّا الصهاينة خمسين فرداً من أصل 90 كانوا يشكلون تعداد قريتنا. دخلها الصهاينة ليلاً، وكان ذلك في 14 نيسان من عام 1948، وكان قوام حملتهم مجموعتين من عصابتي ليحي وأرغون الصهيونيتين، وكانوا يرتدون اللباس العربي، ما جعل أهل القرية يعتقدون أن الداخلين عليهم هم من المجاهدين الذين جاؤوا لمساندتهم من القرى والمدن المجاورة، فاستقبلوهم بالتهليل والترحاب، لكن سرعان ما فتح أفرادها نيران أسلحتهم على مستقبليهم من أبناء القرية، فأردوا هذا العدد الكبير من الشهداء وانسحبوا، ومنذ ذلك الحين بدأت معنا رحلة العذاب الطويلة. انتقلنا خلالها عبر عدة قرى فلسطينية وأردنية وسورية، وقطعنا خلالها الجبال والوديان والأنهار، مررنا خلالها على وادي الحمام المجاور لطبريا، ثم إلى قريتي حطين والشجرة في القضاء، ثم توجهنا إلى نهر الشريعة على الحدود الفلسطينية الأردنية، ثم إلى الباكورة، فإلى العدسيّة في الأراضي الأردنية، وبعدها دخلنا الأراضي السورية من طريق الحمّة، فالناصرية التي كانت تسمى أيضاً (شرشرة)، وهي القرية المتقابلة مع سمخ على الحدود الفلسطينية. وانتقلنا بعدها إلى قرية العال، فوادي اليرموك، فوادي السمك عند قرية البطيحة السورية، فمخيم الجوخدار عند قرية خسّين التابعة لمحافظة القنيطرة السورية التي كانت إحدى المحطات والتجمعات لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين، منتقلين بعدها إلى مخيم خان الشيح الذي كان أول مخيم أُنشئ للاجئين الفلسطينيين في سورية، وكان تعداده وقتها أكثر من 25 ألف لاجئ توزعوا بعدها على المخيمات الأخرى، كمخيمات خان دنون وجرمانا والسبينة والسيدة زينب. وقد استقبلنا إخواننا السوريون بما يليق وبكرم الضيافة واقتسموا معنا قوت أولادهم.

في مخيم اليرموك

وانتقلت بعد زواجي في عام 1970 إلى مخيم اليرموك، المخيم الذي أخذ من عمري ومن عمر أولادي الكثير الكثير، وتعبنا فيه جميعاً. بنينا بيتنا لبنة لبنة، كانت مغموسة بعرق السنين.

بالأمس يا بُنيّ سقطت قذيفة على سطح بيتي. هكذا أخبروني، وشاهدت صورة تؤكد ذلك. عندها بكيت يا ولدي. تذكرت دفء البيت، والأولاد والأحفاد من حولي. تذكرت تعب السنين الماضية. تذكرت وتذكرت، ولكني أصبحت أراه اليوم حطاماً.

ما يحيّرني الآن يا ولدي سؤال واحد؟ هذا المخيم، لماذا يعاقَب أهله بهذه القسوة؟ ألأنه ردّ الجميل للأخوة الذين احتضنوه في السابق؟ ألأن أهله اقتسموا مع ضيوفهم من النازحين من المناطق المجاورة للمخيم رغيف الخبز؟ ألأنهم استقبلوهم في بيوتهم ومدارسهم ومساجدهم؟ ألأنهم أمدّوهم بالفُرُش والأغطية؟ أليسوا هم أهلنا، أنسباءنا، أقرباءنا، أخوال أولادنا، ونحن أخوال لأولادهم.

أنُعاقب على الوفاء والمروءة يا ولدي؟ ألم تشاهد يا بنيّ النكبة الأصعب على حقيقتها؟ ألم تشاهد يوم الفزع الأكبر في مخيم اليرموك؟ ألم تشاهد حين خرج عشرات الآلاف دفعة واحدة من المخيم؟ ألم تشاهدهم وهم يحملون (بقجهم) وأمتعتهم على ظهورهم؟ ألم تشاهد الابن كيف كان يحمل أمه المقعدة على ظهره، وخرج بها من المخيم وهما يبكيان؟

هو هو ذاك المشهد. هي هي النكبة الأولى يا بنيّ! ونحن، أين نحن الآن؟ في المنافي. في شتات آخر، في غربتنا الجديدة. هل يمكن أن يتحول حلمنا بالعودة إلى قرانا ومدننا الفلسطينية، إلى قريتي ناصر الدين التي تبعد فقط عن طبريا 7 كم، إلى حلم آخر يتلخص بالعودة الى مخيم اليرموك، والحسينية، والسبينة وخان الشيح؟ لا وألف لا. لن يحرفونا عن مسارنا. سنبقى ما حيينا نردّد: "نريد العودة إلى فلسطين، إلى قرانا ومدننا الحبيبة، ولكن أمهلوني قليلاً، أعطوني ولو ساعة فقط أقبّل فيها مخيم اليرموك، أعطوني ولو دقيقة أقبّل فيها مخيم خان الشيح؛ فوالله لهما في القلب مثل ما لناصر الدين وطبريا وفلسطين كلها.