مجلة العودة

الحاج مصطفى صايمة: أننا لن نقبل إلا بعودتنا لفلسطين كل فلسطين

يتذكر تفاصيل يوم النكبة ويحلم بالعودة ولو ليوم واحد
الحاج مصطفى صايمة: أننا لن نقبل إلا بعودتنا لفلسطين كل فلسطين

حاورته ابتسام مصطفى/ غزة
 
رحل عنها وما زالت تعيش في القلوب وفي العيون، تتراءى له في المنام عروساً جميلة مكللة بالغار والزيتون والزعتر، تحلق روحه هناك حيث مرابع الطفولة ومنبع الذكريات، هنا كانوا.. هنا لعبوا، هنا زرعوا، هنا حصدوا، هنا أكلوا وكانت لهم الكثير من الذكريات!!
 
  في اللد كانوا.. فهل تراهم سيعودون!
 
في الذكرى الستين لسقوطها ومذبحة مسجدها الكبير، التقينا الحاج مصطفى عبد الغني صايمة من مواليد مدينة اللد عام 1937. عمل مديراً عاماً لقسم التسجيلات في وكالة الغوث وهو متقاعد حالياً، فكان لنا معه هذا اللقاء.
 
 «العودة»: حدّثنا عن عائلتكم وأصلها وكيف كنتم تعيشون قبل الهجرة؟

جد العائلة الكبير كان يعيش في موطنه الأصلي في جبل عكار، شمال لبنان، وكان تاجراً يتنقل من بلد إلى آخر في بلاد الشام للتجارة، ومن البلاد التي قدم إليها أثناء مزاولته عمله مدينة اللد في فلسطين، حيث تقع هذه المدينة في وسط فلسطين وهي مركز تجاري هام وملتقى طرق المواصلات وكان يعقد فيها سوق الاثنين الأسبوعي «سوق البرين»، ويحضر إليه التجار من جميع أنحاء فلسطين والأردن وشمال السعودية وسوريا ولبنان وغيرها من البلاد.

جدنا حضر وحده من لبنان إلى مدينة اللد ليقيم إقامة دائمة فيها ممارساً عمله في التجارة، وكان ذلك في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً، وقد تزوج من جدتنا اللداوية الأصل من عائلة الصالحي، وكل ذريته منها.

قبل الهجرة يوم 13 حزيران/ يوليو عام 1948، كنا نعيش في بيت ملك لنا في المدينة، وكنت حينذاك طالباً في الصف الخامس الابتدائي، كنا نعيش في أمان وحالتنا المادية جيدة، حيث كان والدي يعمل في محل تجاري.

«العودة»: ما هي أهم معالم مدينة اللد، صف لنا المدينة؟

 
اللد مدينة قديمة جداً بنيت منذ آلاف السنين ولها أهمية كبيرة بسبب موقعها الذي يتوسط فلسطين، فتقع في السهل الداخلي، وهي قريبة جداً من المنطقة الجبلية في وسط شرق فلسطين. أيام الفراعنة كان اسمها «وتن»، وأيام الرومان كان اسمها «ديوسبوليس»، في صدر المسيحية كان اسمها «لد»، افتتحها عمرو بن العاص صلحاً سنة 636م، وورد اسمها في حديث رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث ذكر أن عيسى بن مريم عليه السلام سوف يقتل المسيح الدجال على باب «لد».

في جنوبها على بعد 3 كلم تقريباً تقع مدينة الرملة التي بناها سليمان بن عبد الملك والي فلسطين حينذاك.

أهم معالمها الجامع الكبير الذي بناه الملك الظاهر بيبرس سنة 1268م، وكذلك كنيسة الخضر وهي كنيسة بيزنطية قديمة وبجانبها دير الروم.

وفيها عدد من مقامات وقبور الأولياء، منهم الصحابة مثل المقداد بن الأسود، عبد الرحمن بن عوف، سلمان الفارس، ومنهم الصالحون مثل الشيخ محمد الجسر، محمد الصالحي، حسن العلمي، صالح النقيب وغيرهم.


المسجد الكبير وكنيسة مار جرجس (الخضر) في اللد

«العودة»: هل كان يمتلك أهالي اللد أراضي، ومن هي العائلات الكبيرة والمشهورة في البلد؟

نعم كان لأهل البلد أراضٍ واسعة في كل الجهات المحيطة بالمدينة، وهذه الأراضي مملوكة لكثير من السكان منها مزارع الحمضيات «البيارات»، ومزارع الفواكه والزيتون والعنب والخضروات، وهناك أيضاً صناعات الحرف اليدوية كالنجارة والحدادة وورش صيانة السيارات وغيرها الكثير، وهناك العمال الذين كانوا يعملون في المصانع أو المزارع أو في معسكرات الجيش الإنجليزي مثل معسكر بيت نبالا في الشرق ومعسكر صرفند في الغرب.

ولا ننسى طائفة التجار الذين كان لهم عدد كبير من المحلات التجارية في البلد وخاصة اللد الحديثة.

أما العائلات الكبيرة والمشهورة فمنها الصالحي، أبو كويك، أشكوكاني، حسونة، الكيالي «الناجي»، العلمي، الهنيدي، الشيخ قاسم، صبح، المهتدي.

«العودة»: أين كنتم تسكنون في اللد؟

كانت أسرتي تسكن في وسط مدينة اللد الغربية، ويطل بيتنا على الشارع الطولي الغربي الذي يخترق المدينة من الشمال إلى الجنوب ويلتقي بالشارع الرئيسي «صلاح الدين».

«العودة»: كيف سقطت اللد، ومن دافع عنها؟

قام أهالي اللد بعمل ما في استطاعتهم للدفاع عن بلدهم حيث جمعوا كل ما استطاعوا من سلاح سواء بشرائه أو بالاستيلاء عليه من معسكرات الجيش الإنجليزي وما كانوا يستولون عليه أيضاً من اليهود أثناء المعارك معهم، وقد قام وجهاء وقادة البلد بعمل قيادة عسكرية وأخرى مدنية وكذلك لجنة طبية وقد قام كل بعمله خير قيام، ولا يتسع المجال هنا لذكر المعارك مع اليهود بالتفصيل، فهذا يحتاج إلى كتاب، ولكن يجب القول إن معنويات الأهالي كانت عالية جداً ولم يقصروا في الدفاع عن بلدهم حتى يوم الاحتلال، ويجب التنويه هنا بأن لا أحد من خارج لواء اللد (الذي يضم السهل الساحلي الأوسط وقسم من الجبال شرقه) شارك في الدفاع عن البلاد ما عدا مائتين من الجيش الأردني في أقسام الشرطة في اللد والرملة، ولكن الأهالي هم أنفسهم من كانوا يقومون بالدفاع عن بلدهم وقراهم، فكثيراً ما يخرج المناضلون من اللد لنجدة قرى المنطقة ومنها سلمة ومدينة يافا المجاورتان لمدينة تل أبيب وكذلك لنجدة مدينة الرملة عدة مرات بعد سقوط يافا والقرى من حولها.

في أواخر نيسان/ أبريل سنة 1948م أصبحت اللد والرملة شبه محاصرتين ما جعل المسؤولين فيها يستعدون لحصار طويل، ثم كانت الهدنة الأولى لمدة شهر بدأت في 10/6/1948 وانتهت في 9/7/1948، وفي أثنائها حصل اليهود على مجنزرات حديثة وسلاح حديث، بالإضافة إلى عدد من الطائرات وعدد كبير من المتطوعين اليهود ممن كانوا جنوداً مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية والمدربين جيداً.

في يوم 10/7/1948 انتهت الهدنة الأولى وتجددت الحرب وقام اليهود بشن هجوم كبير واحتلوا كل القرى شمال اللد والمطار، وفي يوم 11/7 بدأ الهجوم على المدينة نفسها من الشمال والشرق وقد استمات الأهالي في الدفاع عن اللد حتى عصر ذلك اليوم، ثم دخل اليهود البلدة واتجهوا إلى مدينة الرملة واحتلوها في المساء.

في يوم 12/7 تجدد القتال بين المناضلين في مركز الشرطة شرقي البلد حتى يوم 13/7 حيث انسحبوا بسلام إلى الشرق.

«العودة»: وكيف كان يوم الخروج الكبير من اللد سنة 1948 وما تذكره عن هذه النكبة؟

في يوم 12/7 بدأ اليهود بإخراج السكان شرقي البلد من بيوتهم بالقوة وأمروهم بالتوجه إلى برفيليا (قرية جبلية شرق اللد) وكانوا يطلقون الرصاص فوق رؤوسهم لإرهابهم وقام اليهود بإخراج السكان غربي البلد من بيوتهم يوم 13/7، وأمروهم بالذهاب لسوق الخضار وسط البلد، وعند الظهر أمرونا بالخروج شرقاً إلى رام الله «عند الملك عبد الله» كما قالوا لنا.

بدأنا السير على الأقدام ولم يكن معنا من المتاع إلا بطانية ملفوف فيها عدة أرغفة وإبريق فخار فيه ماء، كان الناس يسيرون في طابور لا يُرى أوله ولا آخره وكان الجو حاراً جداً حيث كنا في تموز/ يوليو أحد أشهر الصيف الحارة أوائل شهر رمضان، وقد مات عدد كبير بسبب العطش. قدر هذا العدد بالمئات أغلبهم من المسنين وفقد كثير من الناس أولادهم، وأيضاً فقد كثير من الأطفال أمهاتهم اللواتي مِتْنَ عطشاً.

باختصار وصلنا الجبال الشرقية يوم 14/7 وكان السير في الجبل مرهقاً ومؤلماً، وفي يوم 15/7 وصلنا عصراً إلى قرية في الجبل لا أذكر اسمها لم تكن محتلة من اليهود، وفي يوم 16/7 ركبنا منها سيارة أقلّتنا إلى رام الله.

ومن عجائب القدر أن مدينة اللد نكبت في التاريخ الحديث مرتين في يوم 11/7 الأولى عام 1927 يوم هدم كثير من بيوتها في الزلزال المدمر، ويوم 11/7/1948 احتلالها وطرد أهلها العرب والمهاجرين من حولها، والذين بلغ عددهم حينذاك ما يقارب خمسين ألفاً وبقي فيها من السكان العرب ما يقرب من ألف شخص فقط.

هذا وقد مر الآن ستون عاماً على النكبة ولا يزال ماثلاً أمام عينيّ منظر أولئك الأبرياء الذين أُخرجوا من بيوتهم ظلماً وقسراً ومات المئات منهم عطشاً، وأيضاً لا أنسى المذبحة الرهيبة لحوالى 400 من خيرة الشباب الذين قتلوا في جامع دهمش وما حوله قبل ظهر يوم 12/7/1948 حيث كنت حينذاك قريباً من الموقع، وسمعت صرخات الجنود عليهم.

«العودة»: هل كنت تعرف الشهيد حسن سلامة وجهاده؟

كنت صغيراً في تلك الأيام ولكني كنت أسمع عنه من الكبار ورأيته مع جنوده عدة مرات وأذكر يوم 5/4/1948 عندما نسف مركز قيادته التي كانت في ملجأ للأيتام على طريق يافا والرملة، وقد قتل العشرات من رجاله السبعين الذين حضروا معه عندما عُين قائداً للمنطقة الوسطى عام 1948، حيث عينه في هذا المنصب الهيئة العربية العليا لفلسطين بقيادة الحاج أمين الحسيني، وكنت أسمع أنه شارك مشاركة فعالة ومهمة أثناء الثورة الكبرى 1936-1939 وقد أصيب عدة مرات أثناء القتال منها الأخيرة يوم 31/5/1948 في معركة تحرير رأس العين، وكانت إصابته بالغة استشهد على أثرها.

«العودة»: هل لديكم أوراق طابو للأرض والأملاك؟

كل الأوراق والشهادات وغيرها بقيت في البيت، ولم نستطع حمل أي منها عند طردنا منه حيث كان الجنود يطلقون النار فوق رؤوسنا حتى نسرع في الخروج من البيت.

«العودة»: كيف تنظر إلى حق العودة؟

إن حق العودة يتشبث به الآن الذين لم يعيشوا في بلدهم الذي طرد آباؤهم منه، فكيف ينسى بلده من عاش فيها فترة من الزمن وشرب من مائها وأكل من خيرها؟ إنني في أحلامي أرى نفسي أسير في شوارع اللد، فكيف لا أحنّ إليها وللعودة للعيش فيها ما بقي من عمري ولو ليوم واحد.

«العودة»: هل توافق على دولة فلسطين في غزة والضفة؟

وطننا فلسطين من النهر إلى البحر، فيه يافا وحيفا واللد والرملة والقدس الحبيبة، لن نتنازل عن ذرة رمل واحدة منه لليهود، ومع حبنا لكل ذرة رمل في الضفة وغزة على أننا لن نقبل إلا بعودتنا لفلسطين كل فلسطين.