مجلة العودة

زقاق المخيم ساحة اللعب الضيّقة لأطفال اللجوء

زقاق المخيم ساحة اللعب الضيّقة لأطفال اللجوء
العودة - الضفة الغربية

في مخيم بلاطة، أكبر المخيمات الفلسطينية وفق إحصائية لوكالة غوث اللاجئين، الذي يصل عدد سكانه إلى 29 ألف نسمة على كل متر واحد، تتجاوز فيه نسبة الأطفال الـ40% أو من هم دون الثامنة عشرة.هؤلاء الأطفال، ورغم ازدياد أعدادهم، إلا أنهم لا يجدون أكثر من مترين ونصف في أحسن الأحوال للعب واللهو خارج أسوار منازلهم؛ فطبيعة البناء في المخيمات لم تترك مساحة إلا للمرور من بين البيوت فقط، وليس لأي شيء آخر.
وأقيمت المخيمات كنتيجة مباشرة للنكبة التي أدت إلى طرد ما يقارب أكثر من مليون فلسطيني من أراضيهم ومصدر رزقهم وبيوتهم، واليوم يصل عدد اللاجئين إلى أكثر من سبعة ملايين لاجئ في جميع أنحاء العالم، ولذلك كان محتوماً على أطفال المخيمات العيش في بيوت متكدسة لم يختاروها ولم يخترها آباؤهم أيضاً!
أطفال مخيم بلاطة في نابلس هم ضحايا المخيمات الذين عبّروا بكل براءة عن فقدانهم لأصغر حق يمتلكه أي طفل في العالم، وهو اللعب، حيث أصبح ابن المخيم محصوراً داخل الأزقة الضيقة، ومحروماً أحلامه الصغيرة المتواضعة.
لم تتخطّ أحلامهم حدود الملاعب والحواسيب، فكان أعلى أفقهم كرة القدم في ملعب آمن  تحمي أخوتهم وترسم البسمة على وجوههم، أطفال لم يتجاوزوا التسعة أعوام، ذاقوا الظلم والمر في حياتهم، لا يملكون الحلول، لكنهم يحلمون ويتمنون، هذا كل ما بحوزتهم.
محمود (15 عاماً) ضحية من ضحايا الزقاق، يصف مخيمه غاضباً ويحمل بقلبه غصة وألم يروي لـ"العودة" ألمه: "كما يظهر أمامك، الأزقة ضيقة ولا ملاعب وأماكن جيدة للعب". ويضيف: "عند حلول فصل الشتاء، الناس يختبئون في بيوتهم ويمنعون أطفالهم من الخروج خوفاً من البرد والمياه المتسربة من مواسير البيوت". يطأطئ محمود رأسه ويقول بحزن: "لسنا كباقي الأطفال يلعبون في ملاعب غير مكشوفة وساحات واسعة تفي لهم بأغراض اللعب، فيما نحن محرومون إياها".

أما الطفل رمزي (12 عاماً)، فيصف معاناته لـ"العودة" ويعبّر عن خوفه على إخوته وأخواته الأصغر منه عمراً، ويخشى إصابة أحدهم بالأمراض من سرعة انتقالها بين أطفال المخيم بسبب طبيعة المسكن والحياة الصعبة.
ويقول رمزي: "ألعب في الحارة، وأمسك بأيدي إخوتي الصغار، ومع ذلك أكمل لعبي حتى لا تضيع مني لحظة استمتاع واحدة".
وعلى الرغم من وجود ملعب تابع لمركز شباب بلاطة في المخيم، إلا أن رمزي يؤكد أنه لا يكفي لكل أطفال المخيم، فحتى هذا الملعب مخصص للشباب، ولا يسعهم جميعاً، حسب قوله.
الحاجة أم الاختراع
أثناء زيارة "العودة" للمخيم، كان في كل زقاق وحارة وعتبة بيت مجموعة أطفال يلعبون داخلها حتى لعبة البنانير (الجلول) لم يجدوا مكاناً للعب إلا على التراب. وعند سؤالنا إياهم عن سبب لعبهم على التراب، أجابوا باستهزاء: "كيف لو تروننا بالشتاء نلعب البنانير على الطين"، وصوت ضحكة أطفال بريئة تخفي وراءها حزناً عميقاً.
أما عبارة الحاجة أم الاختراع، فجسدتها مجموعة من الأطفال الذين صنعوا لعبة الشطرنج بأناملهم الصغيرة، مستخدمين الأخشاب والحجارة والسجائر الملقاة في شوارع المخيم حتى تكون وسيلة للعبة الشطرنج وصنع ألعابهم بأيديهم.
يقف خالد (14 عاماً) وسط أصحابه ويرفع نبرة صوته ليلفت الانتباه، ينظر إلى السماء ويقول: "أنا أحلم بأن أملك حاسوباً صغيراً، وأن يكون لدينا مقاهي إنترنت، وألعاب الفيديو مثل أصحابي في المدينة".
مطالب وأحلام وأمنيات بسيطة، لكن تدمع العيون لدى سماعها من أطفال أضحت تلك الأمنيات هي أقصى ما يحلمون به في المخيم الذي وجدوا فيه رغماً عنهم، ينتظرون عودتهم لبلدهم الذي رسموا له صورة في عقولهم، هي جنتهم، ودعاؤهم لربهم في العودة إلى جنة أجدادهم الذين بقوا يروون قصصهم لأحفادهم لكي لا ينسوا بلدهم وحقهم فيها.
المتنفس الوحيد.. الضار
محمد (8 أعوام) أدمع عيني والدته حين سمعته يقول إنه ملَّ من هذه الألعاب، وملَّ من طرد الجيران لهم أثناء لعبهم، فيما اشتكت الوالدة من أن ابنها الأكبر الذي يستعدّ للثانوية العامة، لا يستطيع التركيز أبداً في دراسته من أصوات الأطفال.
وتقول أم محمد لـ"العودة": حال المخيم سيئة للغاية، الاكتظاظ والنفايات الملقاة في كل زاوية داخل أزقة المخيم، كل هذه الأمور عوامل تساعد على إصابة أطفالي بالأمراض، فضلاً عن المشاكل الاجتماعية والنفسية والمالية بسبب الاكتظاظ السكاني للمخيم"، وتضيف: "كل ذلك يهون أمام اقتحامات الاحتلال المتكررة للمخيم، حيث يدخلون المخيم ويطلقون النار ومسيلات الدموع والقنابل والأطفال يلعبون في الشوارع".
وهرباً من حرارة الطقس والجو الخانق في البيوت، يجد الأهالي في عتبات بيوتهم متنفساً لهم، حيث تجلس المرأة وزوجها وأطفالهما ويشاركهما الجيران تلك اللحظات، فتكون عتبة البيت مكاناً لالتقاء العائلة والجيران وتبادل أطراف الحديث، بينما يلهو الأطفال حولهم في الأزقة الضيقة.
أحلام أطفال المخيم متواضعة وصغيرة لم تتجاوز اللعب بأمان من دون إزعاج الجيران واللعب بحرية بلا قيود؛ فهم يمتلكون في صدورهم طاقة عالية للعب، لكن أين؟ في مترين لا أكثر، فيهما تنحصر أحلامهم الطفولية وألعابهم البسيطة. ليس لديهم غير هذين المترين، لكنهم رغم ذلك مصممون على أن يعيشوا طفولتهم متحدين كل القيود.
حلم صهيب وبراء وناص... وصفوه بنبرة مرتجفة، نحلم بوجود ملعب كبير جداً يسعنا ويسع كل الأطفال بأعمارنا من دون أن يطردنا أحد منه؛ فالحرية بالنسبة إلينا أن نلعب الطميمة، وأستيكة، والأكزة (ألعاب شعبية) وكرة القدم.
جيش وعرب
ولأنهم يعيشون في حياة تملأها الأحداث السياسية التي أصبحت جزءاً من حياتهم، انعكس ذلك على نفسيتهم وطريقة لعبهم؛ فمشاهد اقتحام جيش الاحتلال للبيوت ترسخت في عقولهم، وباتوا يجسدونها في لعبتهم المفضلة "جيش وعرب" التي أصبحت من أكثر ألعاب المشهورة في المخيم، واحتلت زاوية من عقل كل طفل فيه، حتى رسخ في عقولهم فكرة قتل الجيش (اليهود) للعرب.
وفي لعبة "جيش وعرب"، يتوزع الأطفال على فريقين: أحدهما العرب، ويقصدون به مجموعة من المقاومين للاحتلال، والفريق الآخر يمثل دور جنود الاحتلال. ويحمل الأطفال ما يحرصون على امتلاكه من أسلحة بلاستيكية بمختلف أشكالها، لتبدأ ساعة اللعب ومحاكاة الواقع الذي يعيشونه.
ومع مرور كل يوم في مخيمات اللاجئين، تبقى النكبة حكاية شعب لن تنتهي حتى يعود اللاجئ وبحوزته مفتاح بيته في حيفا ويافا وعكا واللد والرملة وغيرها كثير من المدن التي هجرت.
ومن الجدير بالذكر أن مخيم بلاطة يقع في المنطقة الشرقية من مدينة نابلس. وتبلغ نسبة العائلات التي تعيش تحت خط الفقر 25% حسب آخر إحصائية لوكالة الغوث، لينعكس ذلك أيضاً على تردي الأوضاع المعيشية أكثر، وخاصة مع التقليصات المتكررة للمساعدات التي تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا).
محاولات إنقاذ
ومن ناحيتها، روت مديرة الشؤون الداخلية في مركز يافا الثقافي في مخيم بلاطة فريال خروب لـ"العودة" بعضاً من مواقف لأطفال اصطحبهم المركز في رحلة داخل الأراضي المحتلة عام 48، ليزوروا الأراضي والأماكن التي هُجّر منها أجدادهم، ويشاهدوا بأم عيونهم بلدهم الأصلي الذي يتمنون العودة إليه.
وقالت خروب: "ردود فعل الأطفال حين وصولهم إلى الأراضي التي هُجّر منها أجدادهم كانت مفاجئة لنا جميعاً. منهم من بكى بلوعة وكأنه ولد وعاش في هذه الأرض، ومنهم من حمل من رمل شاطئ البحر الأبيض المتوسط محتفظاً برائحة بلده داخل زجاجة صغيرة، وكأنها كانت الحل الوحيد أمامه لتؤنسه وتبقى ذكرى له حتى يعود إليها مرة أخرى".
وأضافت: "بعض الأطفال رفض بشدة الرجوع إلى المخيم، وقاموا بالاختباء في بعض المناطق. كانوا لا يستوعبون أن هذه الجنة التي أمامهم هي ملكهم، وهم يعيشون في بيوت مكدسة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الصحية والأمن والأمان والهواء النقي.
وفي السياق، تسعى مكاتب الخدمات في المخيمات إلى توفير الدعم وتقديمه للأطفال قدر إمكانها، حيث أشار مركز خدمات بلاطة لـ"العودة" إلى إسهامه في تقديم دعم لأطفال المخيم، وخاصة للعائلات الفقيرة، من قرطاسية ودعم مالي لمدارس الأطفال، وتنظيم أيام ترفيهية.
ويلفت القائمون على مركز الخدمات إلى أن أكبر مشكلة تواجه الأطفال هي اللعب، حيث يسعى إلى إقامة حدائق ومتنزهات للأطفال بالقرب من المخيم. وآخر مشاريعها إقامة حديقة الفينيق بجانب المخيم لكي تفي، ولو بغرض بسيط من استمتاع الأطفال الذين يمثلون نحو ثلث المخيم.♦