مجلة العودة

65عاماً وشعارُنا فلسطين حرة

65 عاماً وشعارُنا فلسطين حرة
 
القاهرة- العودة

هيهات لشجر الزيتون أن ينحني، ولبيارات الليمون أن تنضب؛ فكل ليمونة ستنجب طفلاً، ومحال أن ينتهي الليمون. قلناها ونقول من جديد: نكبة تلو نكبة، وشعارنا فلسطين حرة بدماء شعبها المعمد بالدم والنار، أبناؤها الذين مثلوا العصر بكل جراحه وآلامه، فكانوا النكبة والنكسة والمقاومة والصمود وتاريخ طالما حاول العدو طمسه.

ابنة الناصرة

خمسة وستون عاماً، ومسلسل النكبة ما زال يتجدد أمام أعيننا، وطعم الذل والهوان نتجرعه في الصباح والمساء، ورحى الزمان تطحن عظامنا دون أي رحمة، وذكريات الموت والخوف تتسلل إلى مخيلتنا دون استئذان، ومن شباك الذاكرة فتحت لنا الحاجة أديبة عطا الله بابها لتتلو علينا شريط ذكرياتها بعد أن اختارها القدر لتكون شاهدة على ضياع فلسطين. ابنة الناصرة التي تزوجت ابن عمها وهي في الثانية عشرة من عمرها، بعد سنة كانت على موعد مع النزوح، حيث روت الحاجة أديبة قصتها قائلة: "هربت وعائلة زوجي من الناصرة، ولم يبق هناك سوى الرجال في انتظار الجيوش العربية وامرأة واحدة تدعى أم ضباع، كانت متمرسة في استخدام السلاح وأبت أن تخرج من قريتها "عيلوط"، ولم يجادلها الرجال كثيراً؛ فقد كانت معروفة بجرأتها وقوتها وإصرارها على فعل ما تريد. وبسرعة أمنت أم ضباع وباقي الرجال الطريق لنا، وتقدمتنا وهي تحمل البندقية على كتفها وتغني أغاني الثورة وتلوّح بها كالعصى. وبعد أن ابتعدنا مسافة جيدة عن القرية، تركتنا وعادت للتمركز في الصفوف الأمامية مع باقي الرجال.

أكملنا الطريق، وبدأ التعب يتسلل إلى أجزاء أجسادنا المنهكة، وفجأة لاحت لنا صورة جيش من العسكر، فبدأت النساء بالزغردة والغناء مطالبات جيشَ التحرير العربي بقتل الصهاينة ودحرهم عن بلادهم، وتحركنا مسرعين باتجاههم، وما إن اقتربنا، حتى فهمنا ما كان مخبّأً لنا؛ فقد تنكر جيش الاحتلال بزي جيش العرب، وما هي إلا دقائق حتى التفوا حولنا وأخذوا كل ما بحوزتنا من مال وذهب، وبدأ الضابط الإسرائيلي يصرخ بنا قائلاً: تريدون قتلنا؟ هذا بعيد عن عيونكم، فلسطين لنا وسنجعل من جثثكم طريقاً نعبر عليها إلى "أورشليم"، وقاموا بتصنيفنا إلى أطفال وعجائز وشابات، وأخذوا كل ولد فوق 10 سنوات إلى داخل البساتين، ولا تزال أصوات الطلقات ترعد في ذهني ورعشة الخوف تلتفني ومن معي.

دموع الخوف أجفلتها صرخات الأطفال التي انتهت ببكاء الأمهات. عادوا من بين الأشجار كاللصوص وحيدين والضحكات تعلو وجوههم الصفراء، وتركوا لنا البكاء فوق جثث تبعد عنا أمتاراً، ورغم الفزع تناثرت شهقات الأمهات مع الألم عله يزيح فقدان أولادهن أمامهن. علقوا جثثهم على الأشجار ليكونوا عبرة لكل من يفكر في العودة من هذا الطريق، وبعد يومين كاملين من الوقوف تحت الشمس قالوا إنهم سيطلقون سراحنا بشرط أن نرحل عن فلسطين، فوافقنا حينها من شدة الخوف، فأم ضباع والرجال لم يكونوا معنا، ولا يوجد لنا معين سوى الله، وما إن بدأنا بالتحرك حتى انهال علينا الرصاص من كل حدب وصوب.أصيب منا من أصيب وقتل من قتل، حتى إن جارتنا كاملة رمت ابنتها البالغة من العمر أياماً وجرت كالمجنونة، لكن حماتها عادت وأحضرت الطفلة ولجأنا إلى الكنيسة واحتمينا فيها مدة أسبوع حتى استطاع "أبونا" كما كنا نقول للخوري أن يتوصل إلى اتفاقية تقضي بخروجنا بأمان، وبالفعل خرجنا. وفي الطريق لحق بنا الرجال بعد أن احتلت الناصرة وقتل فيها من قتل، وكانت أم ضباع أولى القتلى، فلم تحتمل البقاء طويلاً خلف المتاريس وركضت مسرعة باتجاه الصهاينة وهي تطلق النار عليهم، وقال الرجال إنها أصيبت بـ45 طلقة واستطاعت قتل أحد جنود الاحتلال... رحلت أم ضباع وقد علمتنا أن فلسطين ليست لهم، بل لنا، وأنها لن تعود بغير الدم.

أم ضباع لم تستطع أن تبقى خمسَ دقائق خلف المتاريس، أما جيوش العروبة فاستطاعت أن تبقى 65 سنة مختبئة وراء إصبعها، متنكرة باتفاقيات الذل والهوان.

عملية الحافلة

مقاومون، بسطاء، أدباء، وتاريخ طويل من الذكريات، كتبت حكاية نكبة تقصها شفاه عجوز تسعينية لتعود بها شابة في مقتبل العمر تروي تفاصيل سرقة بلد بأكمله دون أن تضيع الأحرف من شفاهها.

الحاجة مريم الغوراني "أم العبد" ابنة قرية "التينة" وابنة الشيخ يوسف "أبو صالح" الذي أطلق شرارة مقاومة المحتلين الإنجليز والصهاينة في قرية "إذنّبة"، والذي شكل أواخر ثلاثينيات القرن الماضي مجموعة ثورية لحماية القرى والمدن الفلسطينية، بعد أن أدركوا مآرب المحتل التي رمت إلى إحلال اليهود بدل الفلسطينيين و"تسليمهم مقاليد الحكم"، فكانت عملية "الحافلة"الردّ الأول من الشيخ أبو يوسف ومجموعته الفدائية الذين تمركزوا في أماكنهم منتظرين الساعة الصفر. وبينما تتوارى الشمس خلف الهضاب، تختفي، وينجلي ضبابها، زرع الشباب لغماً متفجراً على قارعة الطريق أيقظوا به نور الشمس من جديد. فما هي إلا دقائق حتى مرّت قطعان الصهاينة وخلفهم قافلة من الإنكليز الذين وعدوا بحمايتهم، لكن صوت الحق كان أقوى وأصلب من كل وعودهم.

تطاير الصوت إلى آذان كل أهالي القرية. أما أم العبد، فلم تكن بحاجة إلى تلك الأصوات؛ فقد شهدتها بأمّ عينها ودموع الفرحة تعتلي وجهها؛ إذ كانت تعلم أن وراء هذه العملية والدها وأبناء شعبها الأبطال الذين خططوا لعملية الحافلة بكل إتقان وسهروا على تنفيذها أياماً وليالي. لكن القصة لم تنتهِ هنا؛ فقد تمكن الإنجليز من معرفة مقترف عملية الحافلة، وشرعوا بالبحث عنه في كل مكان، ودمروا منزل الشيخ أبو يوسف بعد أن طردوا عائلته منه ومزقوا ذكرياتهم ورموا بها إلى قارعة الطريق، ولم يكن أهل الشيخ وحدهم من دفع الثمن؛ إذ توزع حقدهم على كل أهالي القرية الذين تمنوا أن يبذلوا الدم في سبيل الوطن، لا فقط في سبيل هيكل من الحجارة لا يغني ولا ينفع.

أما أم العبد، فقد اختارت أن تلتحم أكثر بالقضية؛ فمساعدة الثوار ومراقبتهم من بعيد لم يعد يرضي طموحها، واختارت الزواج بصديق والدها ورفيق دربه عبد الخالق الذي كان يكبرها بـ 25 عاماً، وأصبحت القضية زوجها وأباها، وبعد مدة من الزمن هُجِّرت وعائلتها من قريتهم "التينة" إلى قريَتَي مغلّس وعجّور المجاورتين، ومكثت فيهما مدة من الزمن بانتظار العودة إلى قريتها من جديد

لكنّ الانتظار سرق من عمرها 65 عاماً من التشرد، تنقلت خلالها الحاجّة الفلسطينية من بلد إلى آخر، إلى أن استقر بها الحال في قرية الفارعة شمالاً.

وبعد نكسة حزيران عام 1967م شردت مرة أخرى إلى الأردن حيث المطاف الأخير، واستشهد زوجها وهو في طريق عودته من الأردن على الحدود، ولم تعرف بالنبأ إلا بعد سنة من استشهاده.

عائد إلى حيفا

ومن البندقية إلى حملة سلاح الحرف الذي يساوي طلقة، والمحبرة التي لا تقل فاعليتها عن قنبلة يدوية، هم كتاب فلسطين الذين خطوا النكبة بأشعارهم وأقلامهم ليكونوا شاهدين على معاناة جيل كامل لم يكتب له الدهر أن يتنسم عبق بلاده. "عائد إلى حيفا"، تلك الرواية التي جسدت النكبة بكل آلامها بعد أن روى لنا غسان كنفاني قصة رجل وزوجته نسيا طفلهما الصغير في غمرة الخوف، ورحلا وحدهما عن حيفا، لكنّ قلبهما بقي معلقاً بمهد ابنهما يهدهد لطفل ترك بين يدي النسيان، رحلا ولم يرحل هو من مخيلتيهما؛ فقد كتب له الدهر أن ينسى لمرة واحدة فقط، وأن يحفر عميق بعده في قلب أم وأب ملتاع ومشتاق إلى لقاء.

وبعد نكسة حزيران 67 تمكنا من العودة ليجدا المنزل على حاله، لكن طفل المهد أصبح شاباً في العشرين من عمره، تحول من خلدون إلى "دوف"، جندي في جيش الاحتلال. فقد جسد كنفاني النكبة بكل ضياعها وخسارتها بعد أن فنداها لنا بالأرض أولاً، ومن ثم الولد، وأخيراً القضية، ليختم لهم دوف المقابلة قائلاً: "الإنسان في نهاية الأمر قضية"، ولم يبق للوالدين سوى ابنهما خالد الذي التحق بالفدائيين، والذي قد يواجه أخاه يوماً من الأيام، ولكن ما الفرق ما دام الإنسان في نهاية الأمر قضية وعلاقة الدم تأتي في المرتبة الثانية.

تلك هي قضيتنا، وتلك هي نكبتنا، واليوم قررنا كتابتها على قارعة الطريق علّ أحداً من حكامنا العرب يتعثر بها ويخرج من الأفعال الناقصة والمستترة إلى الضمير الحيّ، ومن حروف الجر والنصب إلى حروف البذل والعطاء، ومن التسويف والتظليل إلى حروف تحاكي الحرية والنصر، لعلّ أحداً يتذكر في تلافيف هذا العالم الشاسع حكاية شعب سرق منه وطنه، شعب وعد بأن ينسى قصص النكبة ويكتب قصة تقول: كيف عادت فلسطين؟