مجلة العودة

الرئيس وحق العودة.. هل حان وقت نواقيس الخطر حقاً؟

الرئيس وحق العودة.. هل حان وقت نواقيس الخطر حقاً؟

حسام العيسى

هل كانت حقاً قنبلة سياسية تلك التي ألقى بها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس؟ فهو قد أعلن صراحة تخليه عن حق العودة لجميع اللاجئين الفلسطينيين المشتتين حول العالم، الذين يزيد عددهم على خمسة ملايين فلسطيني، إلى ديارهم التي شرّدوا منها قبل ستين سنة.

الرئيس عباس، الذي جدد تأكيد موقفه هذا بشأن اللاجئين مرتين على الأقل؛ الأولى لقناة «العربية» والأخرى لصحيفة «هآرتس»؛ كان واضحاً وصريحاً، حينما قال إنه لن يطالب الجانب الإسرائيلي


بعودة خمسة ملايين لاجئ إلى الدولة العبرية (الأراضي المحتلة منذ سنة 1948)، فهذا الحق برأيه من شأنه أن يؤدي إلى «انهيار إسرائيل»، كما قال.
 
هل من داع للقلق؟
 

تصريح الرئيس الفلسطيني غير المسبوق في العلن؛ بلور موقفاً أوسع بأنه كان مساً غير مقبول بحقٍّ من حقوق الشعب الفلسطيني، ولا سيما أن الأمر يتعلّق بحق العودة، الذي يطالب به الفلسطينيون على مدى ستة عقود، بغض النظر عن تبرير هذا الموقف؛ فهو الذي صرّح لصحيفة «هآرتس» يوم الثاني عشر من أيلول (سبتمبر) المنصرم بأنه «لن يطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي هجّروا منها قبل ستين سنة»، مشيراً في الوقت ذاته إلى أنه يتفاوض مع الإسرائيليين على عدد قليل من أصل ستة ملايين لاجئ سيعودون إلى داخل الأراضي المحتلة سنة 1948.

تصريح الرئيس الفلسطيني غير المسبوق في العلن؛ بلور موقفاً أوسع بأنه كان مساً غير مقبول بحقٍّ من حقوق الشعب الفلسطيني، ولا سيما أن الأمر يتعلّق بحق العودة، الذي يطالب به الفلسطينيون على مدى ستة عقود، بغض النظر عن تبرير هذا الموقف؛ فهو الذي صرّح لصحيفة «هآرتس» يوم الثاني عشر من أيلول (سبتمبر) المنصرم بأنه «لن يطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي هجّروا منها قبل ستين سنة»، مشيراً في الوقت ذاته إلى أنه يتفاوض مع الإسرائيليين على عدد قليل من أصل ستة ملايين لاجئ سيعودون إلى داخل الأراضي المحتلة سنة 1948.

بل إن الرئيس عباس أمعن في الحديث عن تفاصيل «حل» قضية اللاجئين، عندما قال مخاطباً الجانب الإسرائيلي إنه «يجب أن نتوصل إلى تسوية، ومعرفة أي أرقام يمكنكم أن توافقوا عليها»، بحسب نص حديثه.

وفي إشارة ترمز إلى ما كان يدور بين الجانبين من مفاوضات؛ استبق الإسرائيليون إعلان عباس بالتخلي عن حق العودة بالتسريب لوسائل الإعلام العبرية عن فحوى موقف عباس، وقالوا إنه في أفضل الأحوال؛ فإن عدد الذين سيسمح لهم بـ «العودة» لن يتجاوز عشرين ألف لاجئ من كبار السن وسيعودون على مدى عشر سنوات وحدهم من دون أبنائهم وأحفادهم الذين ولدوا في مخيمات اللجوء.

بهذا التصريح لرئيس السلطة الفلسطينية؛ أمكننا سماع ردود أفعال حافلة بالتنديد، اعتبرت أنّ الرئيس أسقط من حساباته معاناة أكثر من خمسة ملايين لاجئ على مدى ستة عقود وظروفهم المعيشية الصعبة للغاية، ولا سيما أنه تحدّث عن قلقه من احتمال انهيار الدولة العبرية في حال استعادة اللاجئين لحقهم في العودة! ولم يتطرق للظروف المأساوية التي يعيشها اللاجئون والذين ينتظرون كل تلك السنين من أجل تحقيق حلمهم بالعودة.

أمر آخر لافت للانتباه في تصريح الرئيس الفلسطيني للصحيفة العبرية ذاتها حينما قال: «إن الفلسطينيين الذين لا يعودون إلى «إسرائيل» بل يعودون إلى فلسطين (الدولة الفلسطينية التي لم تُعلن بعد)، وإذا قرروا البقاء في الدول التي يقيمون فيها يحصلون على تعويض، وكذلك الدول التي تستوعبهم».

وفي هذا الموقف لا يخفى أنه يرسّخ مبدأ توطين اللاجئين الفلسطينيين كل في مكانه وتعويضهم مقابل تخليهم كلياً عن حقهم في العودة إلى فلسطين المحتلة سنة 1948، وهناك انطباعات واقعية تعزز هذا الموقف.

كهول معدودون فقط

وكما يبدو؛ فإن هناك جهوداً حثيثة للتوقيع على اتفاق قريب بين السلطة الفلسطينية والسلطات الإسرائيلية، وهو ما كشفت عنه مصادر فلسطينية وُصفت بأنها «موثوقة» لصحيفة «الشرق» القطرية التي قالت إن رئيس السلطة محمود عباس توصل بالفعل مع رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت لاتفاق يتضمن اثني عشر بنداً ضمن «اتفاق إطار» سيُعلن في غضون أشهر قليلة، من بينها التخلي عن حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، ولا سيما أن زعيمة حزب «كاديما» الحالية تسيبي ليفني هي من كانت تقود ملف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني وهي التي أعلنت في أكثر من مناسبة رفضها المطلق لعودة أي لاجئ فلسطيني.

ومن بنود الاتفاقية، التي كشف النقاب عنها «التنازل عن حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم التي أبعدوا عنها سنة 1948. حيث تم الاتفاق على مقترح إسرائيلي قديم يقضي بعودة فقط ما بين خمسة عشر إلى عشرين ألفاً من الذين غادروا الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948، شرط أن يتم ذلك على مدى عشر سنوات، وأن لا يحق لهم القيام بمعاملات لمّ شمل لذويهم، أي أن يعود هؤلاء دون أبنائهم وأحفادهم، وهم في أعمار تتراوح بين الستين والثمانين عاماً، ليموتوا حيث ولدوا، دون أن يتاح لهم أن يخلفوا غيرهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما أن معظمهم سيكون معرضاً للموت قبل عودته خلال العشر سنوات التالية.

توطين بدعم دولي

وما فاقم الجدل ورود تقارير، كالتي نشرتها وكالة «قدس برس»، تحدثت عن عروض لتوطين اللاجئين تقدّم بها رئيس السلطة محمود عباس، خلال اجتماعه مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في السابع من أيلول (سبتمبر) الماضي، أفادت بأن تلك العروض مدعومة من قبل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وكندا، وأستراليا.

وكان مما سرّب أن الرئيس الفلسطيني سعى لإقناع العاهل الأردني بقبول فكرة التوطين من خلال الدقّ على وتر الأرباح المادية التي سيجنيها الأردن من تطبيق هذه الفكرة.

فقد تمت الإشارة إلى أن توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن سيسهم في تدفق مالي كبير على الخزينة الأردنية من أموال التعويضات تتراوح ما بين 15 إلى 20 مليار دولار خلال السنوات الخمس الأولى من توقيع اتفاقية الحل النهائي مع السلطات الإسرائيلية، خصوصاً أن المصادر أشارت إلى تلقي الرئيس الفلسطيني تأكيدات من أن الولايات المتحدة ستسهم بخمسة مليارات دولار، والمبلغ نفسه سيسهم به الاتحاد الأوروبي، أما بقية الأموال، فتعهدت كندا، وأوستراليا، وبعض دول الخليج بدفعها.

وما يلفت الانتباه أيضاً، ما ورد في الأنباء من إشارات لمخططات موازية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، الأمر الذي يرسم صورة قاتمة بشأن حقيقة ما يدور في مفاوضات السلطة ومداولاتها.

فقضية توطين الفلسطينيين في البلاد العربية أو كما سمّاها الأوروبيون في «أماكن وجودهم» عادت للبروز من جديد بقوة بعد سنوات من الأخذ والرد رغم استمرار تداولها في الغرف المغلقة منذ «مؤتمر مدريد» عام 1991 وتشكيل مجموعة ما سمي «لجنة اللاجئين» التي تضم عدداً كبيراً من الدول الأوروبية وأوستراليا وكندا وأمريكا.

ما قبل ساعة الحقيقة

إذا ما تركّز الانتباه على صلب تصريحات الرئيس محمود عباس العلنية؛ فإنه لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان توقيت هذه التصريحات؛ فقد جاءت قبيل انتهاء فترة ولايته القانونية في منصبه كرئيس للسلطة الفلسطينية، في الثامن من كانون الثاني (يناير) القادم وفي ظل انقسام فلسطيني.

ولا بد من ملاحظة أنها تأتي أيضاً بالتزامن مع تنحي رئيس الوزراء الإسرائيلي عن منصبه على وقع قضايا الفساد، وكذلك مع قرب انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش، وهو ما يعتقد البعض أنها قد تكون محاولة من أجل التوصل إلى اتفاق ولو على حساب الشعب الفلسطيني ضمن اتفاق أشمل.

فطرفا المعادلة (الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي) والراعي لها (الإدارة الأمريكية) يعيشون في ربع الساعة الأخير في مناصبهم، والجميع طوال فترة حكمهم، أخفقوا في التوصل إلى أي تسوية، مع أن الجانب الإسرائيلي يواصل فرض وقائعه على الأرض ويجعل تلك الوقائع أمراً واقعاً في أي اتفاق مستقبلي، كما هو الحال مع جدار الفصل العنصري وتهويد مدينة القدس وبناء المستوطنات.

توقيت آخر لهذه التصريحات لا يخلو من الدلالات؛ وهو الذكرى الستين لنكبة الشعب الفلسطيني التي كانت السبب في تشريدهم من أرضهم إلى مختلف أنحاء العالم، ولا سيما في مخيمات الدولة المجاورة.

ولا بد هنا من الالتفات إلى دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت (المستقيل) للتوصل في أقرب فرصة إلى اتفاق تسوية مع الفلسطينيين، وتحذيره من أن الإسرائيليين سيندمون على كل يوم يمرّ من دون تحقيق هذا الهدف، في إشارة قوية إلى ضرورة التوصل إلى «اتفاق» مع الرئيس الفلسطيني عباس قبيل رحيله.

نواقيس الخطر

إن من يراقب بدقة تصريح الرئيس عباس؛ لا بد أن يستنتج أنه تخلى بصورة غير مسبوقة عن مضامين جوهرية لثابت من ثوابت الشعب الفلسطيني، الذي يحظى بإجماع جميع الفصائل والقوى والحركات الفلسطينية في الداخل والخارج، ولا سيما فلسطينيو الشتات.

وبمزيد من التأمل في الأوضاع الفلسطينية؛ يلاحظ أن المجتمع الدولي يتعامل مع الرئيس محمود عباس على أنه منتخب من قبل الشعب الفلسطيني ويمثلهم، وهو ما يعني أنه في حال قيام «الرئيس الفلسطيني» بتوقيع مثل هذا الاتفاق الذي يتخلى عن حق العودة من الناحية العملية؛ فإن ذلك يعني فرض واقع جديد في القضية الفلسطينية وفي المعادلة الدولية، ولا سيما في ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني. وما اتفاق أوسلو ببعيد عن فرضه على أرض الواقع رغم عدم حصول الفلسطينيين على ثمنه من قبل الإسرائيليين.

ومن بين المخاطر التي يمكن أن يفرزها تصريح عباس؛ إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الصادر بتاريخ 11 كانون الأول (ديسمبر) 1948، الذي أعطى اللاجئين الحق في العودة إلى ديارهم التي هجروا منهما وتعويضهم في الوقت ذاته.

ومهما يكن الأمر؛ فإن التقديرات الآخذة بالاتساع هي أن المعركة القائمة الآن هي لشطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين، الذي يتعرض للتقزيم أحياناً والالتفاف عليه ومبادلته بحق آخر، أي دولة مقابل العودة.

وقد تكفي الإشارة هنا إلى الحساسية في موضوع حق العودة لدى الشعب الفلسطيني عموماً، وهو الذي ما زال يعاني ويكافح لانتزاع حقوقه من مغتصب أرضه، الأمر الذي يتضح من ردة الفعل الواسعة والرافضة لتصريح الرئيس الفلسطيني.

ومن المثير أن تأتي مواقف الرئيس عباس لتطلق العنان لتقديرات فلسطينية رائجة، تقديرات تعتبر هذه المواقف متساوقة طوعاً أو كرهاً مع الخطاب الإسرائيلي المتعلق بملف اللاجئين. وما هو أكثر إثارة أن عباس ذاته لا يبدو مشغولاً بنفي هذه الانطباعات بشأن أدائه التفاوضي، وهو ما يمنح الانطباع بأن ما هو أسوأ جارٍ بالفعل تحت الطاولة.