مجلة العودة

ملتقى نصرة الأسرى ودروس جزائرية

ملتقى نصرة الأسرى ودروس جزائرية
 
 

نافذ أبو حسنة/ بيروت

بدأ الحديث عن التوجه إلى مجلس الأمن وإعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد، ثمّ مطالبة العالم بالاعتراف بها، أشبه خريطة طريق مضمونة النتائج لمن قالوا بهذه المصفوفة، محددين موعداً لاكتمالها خلال العام الجاري، الذي سيشهد مع قرب نهايته ولادة دولة فلسطينية على أراضي الضفة الفلسطينية وقطاع غزة.

وقد جرى التسويق لهذا المسار بوصفه البديل لفشل المفاوضات غير المباشرة والمباشرة، والخيار المضمون لتحقيق الأهداف الوطنية، بعد أن أنجز سلام فياض جانباً كبيراً من خطوات بناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال، وبرغمه، على حد زعم البعض.

ويبدو أنه جرى الارتكاز على الإعلان الأمريكي المتكرر لحلّ الدولتين، من رؤية بوش، حتى تصورات أوباما، وعلى مؤشرات عربية وغير عربية، بإمكان نجاح هذا الخيار. وهي مؤشرات تعززت بإقدام دول من جنوب أمريكا على الاعتراف المسبق بدولة فلسطينية سيُعلَن عن قيامها، وبتأكيد الأمين العام لجامعة الدول العربية السير بهذا الخيار وصولاً إلى مجلس الأمن.

لكن الموقف الأمريكي المتوقع تماماً، جاء ليضع الخيار بكل تفاصيله وخطواته أمام اختبار جدي. فالولايات المتحدة أعلنت رفضها حلاً أُحادي الجانب، مشيرة إلى أن «الدولة يجب أن تكون نتيجة المفاوضات». وهي لذلك ستستخدم حق النقض في مجلس الأمن إذا وصل الأمر إلى المجلس أصلاً، وهي ستقوم أيضاً بحملة دبلوماسية، ضد خيار الإعلان الأحادي الجانب لقيام الدولة الفلسطينية.

واشنطن التي تصر على مفاوضات تنتج دولة، ترفض القيام بأي ضغط على دولة الاحتلال، لتجمد الاستيطان لفترة محدودة. ويحتاج المرء إلى قدر كبير من السذاجة كي يصدق أن واشنطن لا تستطيع الضغط على الصهاينة. في الواقع هي لا تريد. وهي ترفض اللجوء إلى أي خيار قد يشكل ضغطاً ما على الاحتلال، بما في ذلك طرح خطة أو تصور بديل، للتسوية الأمريكية.

كل هذا مفهوم ومتوقع. وإنّ من يتصور أن أمريكا التي رفضت طلبات بتجميد الاستيطان لفترة محدودة ستؤيد إعلان دولة فلسطينية في مجلس الأمن، يقوم عملياً بخداع نفسه قبل أن يخدع الآخرين.

المشكلة هي في التفاوض نهجاً وأداء ومسلكاً. هذا التفاوض بدأ وسار واستمر وفق التصور الأمريكي المحكيّ عنه الآن: استيلاد دولة فلسطينية من خلال التفاوض مع المحتل. هذا التفاوض هو الذي قاد إلى الصورة الراهنة. صورة تدفع المرء إلى النظر في تجارب أخرى، مادام فرسان التفاوض لدينا يرفضون سماع كلمة أخرى غير المفاوضات. وإذا أردنا النظر إلى تجارب، ينصرف الذهن سريعاً نحو الجزائر.

لا تولد دولة على يد المحتل

برغم الإصرار المرضي(أحياناً) على الخصوصية الفلسطينية، فإن أوجه تشابه قضية فلسطين مع التجربة الجزائرية متعددة وكثيرة. واجهت الجزائر احتلالاً استيطانياً، وعملية تذويب ومحو للهوية الوطنية. وحتى لا نطيل، فقد خاضت الجزائر معركة تحرر وطني صعبة ومعقدة في مواجهة فرنسا والحلف الأطلسي كله، ولاقت دعماً عربياً رسمياً وشعبياً ومؤامرات رسمية وشبه رسمية وإشكالات داخلية إلخ. وخاضت تجربة مفاوضات. وأنجزت تحرراً وطنياً ما زال يشكل أمثولة ونموذجاً.

ولعل التساؤل يدور هنا حول المفاوضات، وكيفية إدارة جبهة التحرير الوطني لها. إذ طالما سوغ البعض لدينا نهجه التفاوضي، مشيراً إلى أن الجزائريين فاوضوا أيضاً. بناءً عليه يستنتجون أن لا عيب في التفاوض. ولكن!

بدأت جبهة التحرير المفاوضات بعد إنجاز سيطرة فعلية لجيش التحرير على مساحات شاسعة من الجزائر. ولم يكن بدء المفاوضات مرتبطاً بوقف الكفاح المسلح. على العكس، تصاعدت عمليات جيش التحرير خلال المفاوضات وكانت تشكل ضغطاً كبيراً على المحتل، وتدفعه إلى التراجع عن شروطه والقبول بطروحات جبهة التحرير. وهكذا جرى الجمع بين المفاوضات واستمرار المقاومة. فما الذي حدث عندنا؟

ناور المحتل الفرنسي كثيراً، وعرض على جبهة التحرير استقلالاً ناجزاً في مناطق الشمال الساحلية الجميلة والخصبة، وأن تترك الصحراء المجدبة القاحلة للفرنسيين، وكان الرد الجزائري من شقين: الصحراء قبل الجزائر العاصمة، وتصاعد الكفاح الوطني في المناطق القاحلة تلك. وهكذا أُحبطت أي مناورة، أو القبول بتجزئة الجزائر. فما الذي حدث عندنا؟ من المهم التذكير أن التفاوض هنا بدأ على نحو 23 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية، وتعرقل عند تجميد جزئي للاستيطان في ال23 في المائة نفسها.

أبدى السيد عبد الحميد مهري، الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائري، وأحد القادة البارزين للجبهة، تعجبه من أن تفاوض حركة تحرر وطني المحتل كي يعطيها دولة. «فالدولة تلك ستحقق شروط المحتل وترهن مستقبلها بإرادته».

ما يجب أن يحدث، (يقول السيد عبد الحميد) هو «انسحاب المحتل غير المشروط من أراضي الدولة، ثم تقرر الدولة إن كانت ستفاوض على علاقات مستقبلية أو لا». يعني هذا في الحالة الفلسطينية انسحاب الاحتلال الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967 المحددة في«المشروع الفلسطيني الرسمي» كأرض للدولة الفلسطينية، قبل أي تفاوض، لا الشروع في التفاوض لإقامة الدولة. حينذاك لن تكون هناك أية دولة.

من المتصور أن هناك مساراً معروفاً لسلوك طريق قريب للتجربة الجزائرية، يبدأ بإنهاء الانقسام، على قاعدة برنامج وطني، يعتمد خيار المقاومة سبيلا لتحقيق الأهداف، بدل التلهي بالتوجه إلى مجلس أمن لن ينتج عنه شيء، إذا أمكن الوصول إليه، بعد الإعلان الأمريكي، عن حملة دبلوماسية، المرجح أنها ستبدأ بالجامعة العربية لإقناعها بإعطاء فرصة مجددة للدور الأمريكي... وبقية الحكاية معروفة سلفاً.

حكايات جزائرية

بالعودة إلى الجزائر، يشدد الأخوة الجزائريون الذين تلتقيهم دوماً على أهمية الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال، وتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى. هنا بلاد تنبض بالحكايات، مثل كل بلاد خاضت حرباً ضروساً ضد المستعمرين، وقدمت تضحيات استثنائية في سبيل الحرية والاستقلال، ستظل درساً وشهادة ماثلة لكل شعوب الأرض، ولمعركة الإنسان في مواجهة القهر والظلم والتعسف. ولكيفية صناعة حرية حقيقية مهما بلغ ثمنها.

كلما عدت إلى الجزائر، وجدت حكاية في انتظاري. فكيف يكون الحال حينما تجتمع الجزائر وفلسطين، ويكون المشترك في هذه المرة: نصرة الأسرى في سجون الاحتلال. فقد شهدت الجزائر العاصمة يومي الخامس والسادس من الشهر المنصرم، انعقاد ملتقى عربي دولي لنصرة الأسرى في سجون الاحتلال، بدعوة من الملتقى العربي الدولي لنصرة الأسرى، وحزب جبهة التحرير الوطني الجزائري. وقد جاء انعقاد الملتقى في توقيت ومكان ملائمين، لينقل قضية الأسرى في سجون الاحتلال، إلى حيّز اهتمام جديد وواسع. ولانعقاد المؤتمر في الجزائر أهمية خاصة، فهنا تجربة ثرية في مواجهة الاستعمار، وسجونه والتعامل مع الجراح التي خلفتها سنوات الاحتلال الممتدة لأكثر من مائة وثلاثين عاماً.

في قاعة رئيسية من قاعات قصر الأمم للمؤتمرات بنادي الصنوبر، عرض الجزائريون صوراً لأبطال من جيش التحرير في المعتقلات. هنا العربي بن مهيدي، المناضل الأسطوري. وفي لوحة أخرى الجميلات الثلاث. ومشاهد لأقبية التعذيب، وأدواته. بشاعة لا يمكن تصورها، وجرائم يحمل معها المستعمر عاراً لا يُمحى عما اقترفه جلادوه في سجن «سركاجي» الرهيب.

لكل ذلك يحمل الحديث عن نصرة الأسرى معنىً خاصاً عندما ينعقد ملتقى لنصرتهم في الجزائر. الذين تقاطروا إلى البلد الجميل من كل مكان، يعرفون عن التجربة كثيراً أو قليلاً، يحملون اعتزازاً كبيراً بتجربة الكفاح الوطني التحرري في الجزائر. وينظرون إلى الإعلان الذي صدر باسم«إعلان الجزائر» لنصرة الأسرى، بكونه تحركا ينطوي على كثير من الميزات، ويتطلعون نحو تفعيله، بحيث يصبح التحرك من أجل أسرانا في سجون الاحتلال عملاً يومياً مستمراً، وليس نشاطاً موسمياً. فمن غير المقبول أن تستمر معاناة الآلاف من أسرانا في السجون، من دون أن يهتز العالم أو يبالي بهم، بينما يمارس كل طاقاته الدبلوماسية وغير الدبلوماسية من أجل جندي واحد، أسرته المقاومة للمبادلة مع المعتقلين الفلسطينيين.

في الملتقى ارتفعت أصوات عديدة، تطالب بإدراج توصية في الإعلان، بأن تقوم قوى المقاومة بواجبها الأخلاقي والوطني، بأسر جنود صهاينة لمبادلتهم بالمعتقلين في سجون الاحتلال. وكان لهذا الأمر صداه الإيجابي، ولاقى تأييداً واسعاً. فقد أثبتت التجربة أن تحرير المعتقلين، إنما ينجح عبر عمليات التبادل. كذلك فإنّ التضحية التي قدمها هؤلاء الأبطال تستحق تضحيات كبرى من أجلهم. وفي نهاية المطاف لا يمكن تحقيق الأهداف الكبرى من دون تضحيات كبرى. وهذا درس جزائري آخر.

قبل خمس سنوات، كنت أعمل على وثائقي عن الثورة الجزائرية (عرض أخيراً في سبع حلقات على شاشة المنار). قلت للصديق الجزائري عبد الحميد عبدوس، الذي قدم مساعدة استثنائية لإنجاز العمل: أريد أن أصور أمكنة شهدت وقائع مميزة في مواجهة المحتلين الفرنسيين. ابتسم عبد الحميد، وفهمت من ابتسامته أن عليّ في هذه الحالة تصوير مئات الآلاف من الكيلومترات المربعة وكل المدن والغابات والقرى والجبال.

تحمل الأماكن أسماء الشهداء. تملك الجزائر الكثير من الشهداء الذين رووا ترابها. وهم مصدر اعتزاز دائم لشعبهم ولأمتهم. بل هم مصدر فخر للإنسانية ومعركتها من أجل الحرية والكرامة.

روى لي الأديب والشاعر المبدع وزير الإعلام السابق، والصديق عز الدين ميهوبي، قصة مجاهد جزائري يدعى الباجي، حيث قاتل الباجي مع إخوانه المستعمرَ الفرنسي، وبعد الاستقلال أراد الركون إلى الراحة، ولكن إخوانه أصروا عليه بأن يعمل، وكان المتاح في حينه، أن يشارك في تنظيم السير على أحد المفترقات في العاصمة. وفي اليوم الأول لعمله الجديد، شاهد الباجي عائلة من «المعمرين» (تسمية أطلقت على المستوطنين الفرنسيين في الجزائر) تعتزم الرحيل عائدة إلى بلادها. كان أحد أفراد العائلة تلك يحمل «مزهرية». أوقف الباجي سيارة المعمرين، وطلب إلى حامل المزهرية أن يسلمه إياها. وعندما فعل، قام الباجي بإفراغ التراب على الأرض قائلاً: هذا تراب جزائري يبقى في الجزائر، وأعاد إليه الوعاء الزجاجي ليحمله معه.