مجلة العودة
ماذا بعد؟
العودة / مخيم اليرموك
 
 

والسؤال ما زال ينبض:ماذا بعد؟ متى تنقشع غيمة الخوف عن قلوب أطفالنا الصغار، ويسقط جسد الليل الثقيل عن صدر مخيمنا، وينفجر من أحشائه نهر السعادة؟ متى يتشدق أحد بجواب لكل تلك الأسئلة، ويتذكر في خضمّ هذه الحرب الدائرة هؤلاء الضحايا المجهولين، الذين لا دور لهم في هذه اللعبة سوى دور الخاسر الأكبر؟

فمع حلول شهر تشرين الثاني، غدا المخيم حزيناً على أبنائه الذين رحلوا عنه، إما إلى الدار الآخرة، أو إلى دار أخرى خارج حدوده، وتركوه وحيداً ينزف ألماً وحزناً على جثث أبنائه الذين تناثروا على أرضه، وضحكات أطفاله التي تلاشى صداها في جنباته، ولم يبق فيه إلا القليل من أهله الذين أبوا الخروج، وآثروا الصمود وحدهم في قلب العاصفة.

في تاريخ 14/1/2012م دخلت مخيم اليرموك مع من دخل، وهناك التقيت برجل ستيني يجلس وحده في أول شارع لوبية، يرقب المارّة وفي وجهه نظرة حسرة وألم على ما حدث.
اقتربت منه بعد أن رمقني بنظرة استجواب عن سبب وجودي هنا، لكنه آثر الصمت على السؤال، وترك لي مهمة استجوابه. وبالفعل، بدأت السؤال عن أحوال المخيم، وعن سبب جلوسه هنا، فأجابني: "لن نعيد الكرّة". خرجنا أول مرة من فلسطين، ولن نترك مخيمنا إلا إلى فلسطين.
سأبقى هنا أحمي كل شبر من منزلي، فلم نمت، لكننا رأينا من ماتوا قبلنا؛ فبمجرد خروج الناس من منازلهم، يسطو أصحاب السلاح، ومن ثم اللصوص على المنازل، ولا يبقى فيها شيء. وإذا جلستِ هنا فستشاهدين الاشتباكات التي تجري كل يوم في الساعة السادسة مساءً، وأحياناً طوال الوقت، وسترين من بقي من أهل المخيم كلهم في الطريق، إما ليحددوا مكان سقوط القذيفة، أو لمساعدة الجرحى من أهل المخيم، أو لإبداء آرائهم السياسية التي أصمّ الناس كلهم آذانهم عنها. وفي الليل ينظم الشباب الباقون دوريات لحراسة المنازل، ويتناوبون السهر على رأس كل شارع حرصاً على سلامة الأهالي. وبصراحة، أنا لا ألوم من خرج من المخيم؛ فقد شهد العالم هنا شتى أنواع العذاب، وبالأخص الأطفال بعد أن أصبحت ألعابهم كلها عن الجيش الحرّ والنظامي؛ فحفيدي ذو الست سنوات ضرب أخاه الصغير على رأسه، متهماً إياه بأنه من الشبيحة، وسيقضي عليه لأنه من الجيش الحرّ، ونظّم هو وأولاد الحارة كلهم حواجز طفولية مصنوعة من خيط من المطاط يقف بعضهم في أول الشارع من الجيش النظامي وآخره جيش حرّ، مع فرق أنه في نهاية اللعبة ترتسم ابتسامة طفولية بريئة على وجوههم ويتبادلون السلام بدلاً من رصاص الكبار. وأكمل قائلاً: مخيم اليرموك أصبح الآن مقسوماً إلى قسمين: نصفه جيش نظامي، والنصف الآخر جيش حرّ. لذا قررت الجلوس في المنتصف؛ فهو المكان المثالي لنا؛ فنحن شعب لم نذق في حياتنا سوى طعم الأمور الوسطى، إضافة إلى نكهات أخرى من الخيانة والألم والطعن بالظهر، ولا مكان لنا في هذه الدنيا الظالمة.
تركت منتصف الطريق وتوغلت داخل المخيم أكثر، وهناك توجهت إلى العيادة الوحيدة الباقية والممتلئة بالمرضى الصغار والكبار.
وبعد عشر ساعات من الانتظار، تمكنت من الحديث مع الطبيب الذي أخبرني أنه منذ اندلاع الاشتباكات في المخيم وحتى الآن أتى إليه قرابة 120طفلاً يعانون حالة التبول اللاإرادي في الليل، إضافة إلى حالات عديدة من هستيريا البكاء والصراخ الفجائي عند سماع صوت القذائف والأعيرة النارية التي أصبح سماعها أمراً طبيعياً. وتابع الطبيب قائلاً إن هناك أمراضاً كثيرة يعانيها الأطفال نتيجة الضغط النفسي الهائل الذي يتعرضون له، ومنها الإسهال والإمساك الشديد الناتج من الخوف، إضافة إلى عدم القدرة على النطق السليم والتوتر العضلي والعصبي، والنشاط الزائد، وزيادة في عدد دقات القلب، والتعرق والشعور بالبرودة والرطوبة في اليدين، وجفاف في الفم مع صعوبة في بلع الطعام أو الشراب، هذا طبعاً إن كان متوافراً؛ فكثير من أنواع الطعام وأدوية الأطفال والحليب الخاص بهم مفقودة، وهذا الأمر قد يقود إلى كارثة كبيرة، ولا سيما أن هناك أعداداً كبيرة من أهالي المخيم رفضوا الخروج من منازلهم، وآثروا المكوث تحت القصف على النزوح إلى الطريق. 

وفي سؤالي لإحدى النسوة في العيادة، قالت إن طفلها البالغ من العمر 8سنوات لا يتوقف عن الضحك والكلام بصوت عالٍ، وهذا الأمر لم يكن ضمن شخصيته، بل بدأ معه منذ اشتعال الأزمة في المخيم، ومع كل صوت مدفع وقذيفة هاون يبدأ بالضحك والغناء، ما اضطرها إلى أخذه إلى الطبيب الوحيد الباقي هناك وأخبرها أنه يعاني خوفاً شديداً، ويحاول التكتم عنه بالضحك والغناء، والدواء الوحيد لحالته هو إحاطته بالمزيد من الحنان وضمّه إلى صدرها بقوة عند بدء القصف، إن لم تستطع إخراجه من المكان، وتتحدث معه ليعبّر عمّا في داخله، وإن أراد البكاء تشجعه وتبتعد عن عبارات (أنت رجل يجب عليك ألّا تبكي)؛ فهو أحوج ما يكون في مثل هذا الوقت إلى البكاء.

البكاء الذي بتنا اليوم كلنا أحوج إليه بعدما أصبحت أرقام أشلائنا متصدرة لشريط الأخبار بكل جدارة، تلك الأرقام المقصوصة من لحمنا، والمنسوجة بخيطان أعصابنا، تشعرنا بأننا صغار صغر ذبابة، نقف وحدنا في دهاليز هذه الحياة المظلمة، نصرخ نصرخ في كل يوم ألف مرة، لكننا نعلم مسبقاً أن لا حياة لمن تنادي.