مجلة العودة
موعـد مع العيــد

يا عيد، عتبي عليك اليوم كبير؛ فدموع أطفالنا على المحيّا تسيل، والفقر بات قميصاً من نار فُرض علينا وهجه ولهيبه. يا عيد ذكرتني بأصحابي بمدرج الطفولة ومهد ألعابي. بجدّة توزّع الحلوى لأترابي وأرجوحة تسابق الريح. تسبقها ضحكات أطفال تلهو من دون إذناب.. تتساءلون اليوم عن فرحي؟! ما لي أرى الدمع يتسلل سرّاً في أحداقي؟! سرقتم الفرح والأحلام من عمري وزرعتم الشوك والآلام في قلب طفل متشرد... شاكٍ.
في شوارع مخيم اليرموك كان رامي (10 أعوام) أول من التقيته أمام أبواب مدرسته. أربكني بضحكته الساخرة، وأحرجني بعد أن بدا سؤالي عن العيد سخرية بالنسبة إليه، وردّ عليّ ونظرة الاستهزاء لا تفارق وجهه: عيد؟! ما معنى هذه الكلمة؟ أين العيد؟ هل حقاً نحن على موعد معه في حضرة الموت، بعد أن غدونا نصحو كل يوم على صوت الرصاص ينادي صغيرنا قبل كبيرنا. صدقيني، كبرنا، وبالأحرى هرمنا.
مشيت والصدمة ترتسم على وجهي. سرت في شوارع المخيم باحثة في حواريه الضيّقة عن طفل لم يصل الهرم بعد إلى روحه وقلبه، والتقيت أخيراً بحسن، ابن الأربعة أعوام، الذي ردّ على سؤالي فرحاً: طبعاً أنا أستعد للعيد؛ فبابا وعدني بأن يشتري لي ملابس جديدة وحقيبة مدرسة؛ لأني سأذهب بعد العيد إلى الروضة، ووعدني أيضاً بأرجوحة ودراجة نارية وحصان لأركب عليه. أنا أحب العيد وأنتظره بلهفة. 
مع أحلام حسن الوردية أكملت الطريق؛ علّني أجد طفلاً آخر يشبع رمق قلمي، لكن خطواتي قادتني هذه المرة إلى مستشفى فلسطين بعد أن سمعت بالطفلة جنى التي مات والداها وتركاها وحيدة. هي الآن في غرفة العناية المشددة لا تعلم ما يدور حولها بعد أن غدت كل الأجهزة الطبية عاجزة عن رسم بسمة العيد على شفتيها، وتساءلت: تُرى ماذا سيكون جوابها لو سألتها عن العيد؟ هل ستتغنى بجمال العيد وحلوياته وملابسه الجديدة، أم ستقف مطالبة بإلغائه هذا العام وتقول لكل الكبار في العالم: نريد عيداً ينبع من قلوبنا، من نكباتنا، من واقعنا بعد أن نعري الجرح، ونداويه بدلاً من أن نصرّ على إخفائه تحت زينة العيد.
تابعت المسير بعد أن فقدت البوصلة وتركت القدر وحده يختار لي من سيكون بطل عيدي التالي، وبالفعل كان البطل هذه المرة في منزلي جالساً مع أمه حزيناً من الدنيا كلها بعد أن اختار أهله الرحيل إلى لبنان، وبسؤالي الذي بات استفزازياً لكل أطفال المخيم أجابني: مع من سأذهب إلى العيد؟ كل أصدقائي هنا في المخيم، مع من سألعب؟ لا أريد الرحيل، لا أريد الافتراق عن أصدقائي؛ فلا طعم للعيد من دونهم.
وبتنهيدة قصيرة أدرت عيني باتجاه أخته رنا التي بدأت بالبكاء فوراً قائلة: ليس لنا قرار أبداً، أريد قضاء العيد هنا مع أقاربي وصديقاتي، فقد سمعت أن الأراجيح ستنصب في شارع لوبية، وسيكون هناك عيد، وحتى لو لم يكن هذا صحيحاً لا نريد الرحيل؛ فالعيد الحقيقي يكون بين الأهل والأحباب، إلا أن الكبار يتصرفون دائماً وكأننا لسنا موجودين، أنا أحتج على قرار الرحيل، لكن صوتي لا يسمع "لا أدري أين الحرية؟!".
أما نور ابنة التسع سنوات فقالت: كم أتمنى أن تعود آلة الزمن إلى الوراء ويعود العيد كما كان، رائحة الحلويات تفوح في الطرقات، والأضواء تملأ الشوارع، والألعاب في كل مكان، وقطار الأحلام يجوب شوارعنا حاملاً ضحكات الكبار قبل الصغار. كم أدعو الله أن يعيد الأمان إلينا، وأن أعود إلى حضن جدتي التي ما زالت كلماتها تجوب في رأسي، وهي تقول لي: نحن جيل النكبة العربية بلا منازع، جيل صحا على واقع اغتيال فلسطين، جيل بلا أعياد، ولا عيد لنا إلا بعودتنا.
وخلف جامع الوسيم يقع ملعب لكرة القدم بات الآن مكبّاً للنفايات، ومع ذلك لم يتنازل أطفال المخيم عن حقهم، ولم يتوقفوا عن اللعب فيه وصراخهم لا يُسمع أمام أصوات المدافع، وهناك تحدثت مع وائل كابتن الفريق الذي رد متحسراً: عيد، لا عيد هذه السنة. انظري، نصف أعضاء الفريق سافروا إلى الخارج، ولا أعرف متى سيعودون، هذه أول مرة منذ خمس سنوات نفترق عن بعضنا، فقد كنا نقضي العيد كله بالركوب على الأحصنة ونتسابق من سيضع أجمل زينة على شرفته، ولا ننام ونحن نزعج بعضنا برسائل العيد، فلا يتوقف الجهاز عن الرنين حاملاً رسالة تبشّر بقدومه. أما اليوم، فلا أحد يرسل أو يستقبل شيئاً، ولا نقول لبعضنا سوى: "كل عام ونحن على قيد الحياة".
هكذا غدا أطفال المخيم في العيد: ابتسامة مسلوبة، ودمعة تكفي لإرواء قبور الأحبة، ينتظرون العيد والخوف من المجهول يتلقف قلوبهم الصغيرة، بعد أن غدوا لا يحتملون آلام الأيام القادمة، يحضرون لاستقبال العيد وأعينهم مرفوعة إلى السماء، يسألون الله اللطف بهم وبأهلهم، ويرددون في سرهم:
 "يا يما لو جاني العيد
 وأنا عن بلادي بعيد
ومالي حدا يعايدنـــــي
يا يما لو جاني العيد
سألته وين الغوالي
الناس بتلبس ثوب جديد
وشيلي من الردم أطفالـــــي"♦