مجلة العودة

تقرير: تشرين الثاني (نوفمبر).. انعطافات في ذاكرة اللاجئين - ماهر الشاويش

تشرين الثاني (نوفمبر).. انعطافات في ذاكرة اللاجئين
 

ماهر الشاويش/ دمشق

انطلاقاً من 2 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، يبدأ الشعب الفلسطيني ومناصروه حول العالم بإحياء ذكرى مجموعة من المناسبات والعناوين المهمة المرتبطة بالقضية الفلسطينية، ومنها ذكرى وعد «بلفور» (2/11/1917)؛ وصدور قرار تقسيم فلسطين (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، بتاريخ 29/11/1947)، الذي يتوافق وتاريخ يوم الأمم المتحدة لمناصرة الشعب الفلسطيني (29/11/1977)؛ وقد كانت هذه المناسبات من أهم الأحداث التي جعلت قضية فلسطين من أكثر القضايا التي تستحوذ على اهتمامات العالم ومن أكثرها جدلاً حتى يومنا هذا.

وعد بلفور

يمكن أن نوثق بداية «أن دولة اليهود أسست في لندن»، فبيان وزير الخارجية البريطاني بلفور الصادر في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 في ذروة الحرب العالمية الأولى، منح اليهود الذين -رغم أنهم شكلوا أقلية صغيرة في فلسطين في ذلك الحين- «وطناً قومياً» ودولة مصطنعة مخترعة على حساب فلسطين.

كان الوعد حاضراً بعد ذلك في مختلف المؤتمرات والتحالفات الاستعمارية من مؤتمر سان ريمو 1920 الذي منح فيه الحلفاء بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، إلى عصبة الأمم التي صدّقت في تموز (يوليو) 1922 على صك إقرار الانتداب البريطاني، فالصك كان يتضمن في مقدمته نص تصريح وعد بلفور مع تخويل لبريطانيا بتنفيذ الوعد، كما كان الوعد حاضراً في دستور فلسطين الذي أصدرته بريطانيا بعد أسبوعين من إقرار انتدابها أممياً، حيث ضمنت مقدمته نص تصريح وعد بلفور أيضاً، ليصل إلى ذروته التطبيقية بإمرار قرار التقسيم في التاسع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1947.

قرار التقسيم

«خطة تقسيم فلسطين» هو الاسم الذي أُطلق على قرار وافقت عليه الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، وقضت بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة، أي تأسيس دولة عربية وأخرى يهودية على تراب فلسطين وأن تقع مدينتا القدس وبيت لحم في منطقة خاصة تحت الوصاية الدولية. كان هذا القرار المسمى رسمياً بقرار الجمعية العامة رقم 181 من أول المحاولات لحل النزاع العربي/ اليهودي-الصهيوني على أرض فلسطين.

لم يكن قرار التقسيم ابن ساعته، بل جاء في سياق نشاط المنظمة الصهيونية الذي بدأ قبل نصف قرن من ذلك التاريخ، حيث أخذت هجرة اليهود تتنامى بعد المؤتمر الصهيوني الأول (مؤتمر بال 1897) الذي اختار فلسطين وطناً قومياً لليهود.

ولقد كان قرار التقسيم الخطوة العملية الأولى في طريق احتلال فلسطين في إطار خطة صهيونية منظمة ومبرمجة محددة الأهداف والوسائل تعتمد على سياسة قضم فلسطين قطعة بعد قطعة، وساعد النظام العالمي الذي كان سائداً في ذلك الوقت على تحقيق هذه الأهداف.

فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية مع تحديد منطقة دولية حول القدس ظهرت في تقرير لجنة پيل من 1937 وتقرير لجنة وودهد من 1938، وصدر هذان التقريران عن لجنتين عيّنتهما الحكومة البريطانية لبحث قضية فلسطين إثر الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت بين عاميْ 1933 و1939.

بعد الحرب العالمية الثانية وإقامة هيئة الأمم المتحدة بدلاً من عصبة الأمم، طالبت الأمم المتحدة بإعادة النظر في صكوك الانتداب التي منحتها عصبة الأمم للإمبراطوريات الأوروبية، واعتبرت حالة الانتداب البريطاني على فلسطين من أكثر القضايا تعقيداً وأهمية.

وحاولت هيئة الأمم المتحدة إيجاد حل للنزاع العربي اليهودي القائم على فلسطين، فشكّلت لجنة UNSCOP المتألّفة من دول متعدّدة باستثناء الدّول الدائمة العضوية لضمان الحياد في عملية إيجاد حلّ للنزاع.

وعملت هذه اللجنة على طرح مشروعين لحل النزاع، تمثّل المشروع الأول بإقامة دولتين مستقلّتين، وتُدار مدينة القدس من قِبل إدارة دولية. وتمثّل المشروع الثاني في تأسيس فيدرالية تضم كلاً من الدولتين اليهودية والعربية. ومال معظم أفراد لجنة UNSCOP تجاه المشروع الأول الرامي إلى تأسيس دولتين مستقلّتين بإطار اقتصادي موحد. وقامت هيئة الأمم بقبول مشروع لجنة UNSCOP الدّاعي للتقسيم مع إجراء بعض التعديلات على الحدود المشتركة بين الدولتين، العربية واليهودية، على أن يسري قرار التقسيم في اليوم نفسه الذي تنسحب فيه قوات الانتداب البريطاني من فلسطين.

بناءً عليه أعطى قرار التقسيم 55% من أرض فلسطين للدولة اليهودية، وشملت حصّة اليهود من أرض فلسطين على وسط الشريط البحري (من إسدود إلى حيفا تقريباً، ما عدا مدينة يافا) وأغلبية مساحة صحراء النّقب (ما عدا مدينة بئر السبع وشريطاً على الحدود المصري). ولم تكن صحراء النّقب في ذاك الوقت صالحة للزراعة ولا للتطوير المدني، واستند مشروع تقسيم الأرض الفلسطينية إلى أماكن وجود التّكتّلات اليهودية، بحيث تبقى تلك التكتّلات داخل حدود الدولة اليهودية.

وفي نوفمبر 1947 بلغ عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة 57 دولة فقط. حيث كانت الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية (ألمانيا واليابان وحلفاؤهما) خاضعة لسلطات الاحتلال أو ممنوعة من الانضمام إلى المنظمة الدولية. أما معظم دول القارة الإفريقية وآسيا الجنوبية الشرقية فكانت خاضعة للسلطات الاستعمارية ولم تكن مستقلة. وشارك في التصويت 56 دولة، أي جميع الدول الأعضاء باستثناء دولة واحدة هي مملكة سيام (تايلند حاليا)، حيث وافقت الدول العظمى في ذلك الحين - الاتحاد السوفييتي، الولايات المتحدة وفرنسا - على خطة التقسيم، باستثناء بريطانيا التي أدارت سلطة الانتداب وفضلت الامتناع. ومن بين الدول المعارضة للخطة كانت جميع الدول العربية والإسلامية وكذلك اليونان والهند وكوبا.

بذل زعماء الحركة الصهيونية جهوداً كبيرة لإقناع الدول المترددة، واستعانوا بالديبلوماسيين الداعمين للخطة داخل الأمم المتحدة من أجل تأجيل التصويت من 26 إلى 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، ما أعطاهم الفرصة لإقناع ليبيريا والفيليبين وهايتي بالتصويت مع مؤيدي الخطة، وتوفير دعم ثلثين من الدول الأعضاء، وهي النسبة التي كانت لازمة لإقرار خطة التقسيم. حاولت الدول العربية منع هذا التأجيل، ولكن البعثة الأمريكية المؤيدة لخطة التقسيم أصرت على تأجيل جلسة التصويت إلى ما بعد عيد الشكر الأمريكي الذي حلّ في 27 تشرين الثاني (نوفمبر).

مع أن الخارجية الأمريكية قررت وقتها عدم ممارسة الضغوط على دول للزيادة من الدعم، إلا أن بعض السياسيين ورجال الأعمال الأمريكان مارسوا الضغوط على الدول المترددة التي كانت متعلقة اقتصادياً بالولايات المتحدة. فالذي ضغط على ليبيريا مثلاً كان المليونير الأمريكي المشهور هارفي صمويل فايرستون صاحب مزارع المطاط في ليبيريا ومصانع الإطارات المشهورة فايرستون.

وفي مساء 29 تشرين الثاني (نوفمبر) جرى التصويت، فكان ثلاثة وثلاثون صوتاً إلى جانب التقسيم، وثلاثة عشر صوتاً ضدّه، وامتنعت عشر دول عن التصويت، وغابت دولة واحدة.

يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني

أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1977 تبنّيها ليوم 29/11 من كل عام، يوماً عالمياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، اعترافاً منها بمسؤوليتها عما نتج من إصدار قرار التقسيم، وللتأكيد أن القضية الفلسطينية بقيت من دون حلّ. ولكن هذا الاعتراف لم يلغِ حقيقة أن الأمم المتحدة فشلت في تطبيق قراراتها العديدة التي تحمي الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، بسبب غياب الإرادة السياسية للدول المهيمنة.

وإذا كانت حكومات الدول قد خذلت الشعب الفلسطيني فإن المجتمع المدني العالمي لم يخذله، فعلى ضوء استمرار الاحتلال والاستيطان وعمليات التهجير ومصادرة الأراضي، وفي ظل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي (الأبارتهايد) المفروض على الشعب الفلسطيني، فإنه يمكن أن يصبح يوماً للتضامن الحقيقي مع الشعب الفلسطيني، عبر تفعيل القوة الجماعية لمنظمات المجتمع المدني العالمية، وحتى لا يتحوّل هذا اليوم إلى ذكرى أخرى لمأساة مستمرة.

كذلك فإنه في ظلّ تراجع الموقف الرسمي الفلسطيني والعربي عن التمسّك بالحقوق، يبرز دور مؤسّسات المجتمع المدني الفلسطيني كأحد الضمانات الأساسيّة التي يمكن أن تساهم في تقوية الصفّ الفلسطيني والمساهمة في إدامة حالة التضامن معه وبقاء الحقوق حية لحين تغيّر الظرف السياسي الدولي لمصلحته، وهذا غير مستبعد.. لكن كيف يمكن المؤسسات الأهلية، وخصوصاً لجان حقّ العودة، أن تحقق تماسكاً شعبيّاً فلسطينيّاً في ظل حالة التشرذم والتفكّك الحاصلة في الساحة على الصعيد الرسمي كمؤهّل لأخذ زمام المبادرة وترتيب البيت الفلسطيني والعمل على بقاء الحقوق من دون التنازل عنها؟ نعتقد أن إنجاز مثل هذه المهمّة العظيمة لمؤسسات المجتمع المدني لا يحصل إلاّ بالسير ضمن استراتيجيّة واضحة المعالم تتجنّب العشوائيّة.

المطروح حالياً أخطر

صحيح أن ذاكرة تشرين الثاني بالنسبة إلى اللاجئين تحمل في ثناياها عناوين خطيرة على القضية، لكن ما يطرح حالياً على مختلف الصعد ليس أقل خطورة مما طرح سابقاً، بل قد يكون أخطر بكثير، وليس عنا ببعيد مشروع «يهودية الدولة» أو حزمة القوانين العنصرية التي بدأ الكنيست الصهيوني بمداولاته بها لحظة كتابة هذه السطور، وأول هذه القوانين «قانون المواطنة» الذي أقرته حكومة نتنياهو بالغالبية الساحقة من وزرائها، وثاني هذه القوانين «قانون النكبة» الذي أُقرّ بالقراءة الأولى وسيعرض على الدورة الشتوية لإقراره نهائياً. ثالث هذه القوانين، قانون «منع التحريض»، وبموجبه سيُحبس أي شخص وتعاقب أية جهة تنكر «حق إسرائيل في الوجود كوطن قومي للشعب اليهودي». أما رابع هذه القوانين، فهو قانون «لجان القبول»، وبموجبه سيتعيّن على أي عربي الحصول على إذن مسبق للسكن في أي حي يهودي، وسيُفرض على كل عقد بيع أو إيجار الحصول على هذه الإجازة مسبقاً، تكريساً لمبادئ الفصل العنصري.

هذا الحراك يحدث على مسمع العالم أجمع ومرآه، فيما لا يزال اللاجئون والمهجرون الفلسطينيون، الذين يمثلون نحو ثلثي الشعب الفلسطيني، مستثنين من الجهود الدولية المبذولة لإحقاق الحقوق والاستفادة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي الوقت الذي واصل فيه المجتمع الدولي مناصرته لقضايا اللجوء الأخرى حول العالم بهدف تحقيق مطلب اللاجئين الشرعي بالعودة إلى ديارهم التي هجّروا منها، معتبراً إياه الشرط الأساس للتوصل إلى سلام عادل ودائم، فقد ظل المجتمع الدولي ذاته غاضاً النظر عن بذل أي جهدٍ يفضي إلى نيل اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين لحقوقهم كغيرهم من اللاجئين حول العالم.♦