مجلة العودة

ثقافة العودة: الأرض في المسرح الفلسطيني

                         الأرض في المسرح الفلسطيني
د.كمال أحمد غنيم / غزة
 
 

حظي موضوع التحذير من بيع الأراضي باهتمام واسع منذ البدايات، ما كان ينذر بخطر حقيقي على مصير الوطن، فكتب أسطفان سالم مسرحية "بطل فلسطين المجهول"، التي تحكي قصة الفلاح الكادح والوطني المخلص الذي يتبرع بدمه لأجل المرضى ولا يفرط بأرضه، رغم   بؤسه وفقر أسرته. وكتب محمد عزة دروزة مسرحية "الفلاح والسمسار" التي استمدها من الواقع، وجعل محورها بيع الأرض من طريق السماسرة الذين تخلوا عن القيم وباعوا ضمائرهم، ويصور من خلالها تسلط بنات اليهود على أبناء الأغنياء لاسترداد ثمن الأرض من البائعين، على نحو ما فعلت "كوديت" الفتاة اليهودية التي صادقت ابن أحد الأغنياء الذين باعوا أراضيهم لليهود حتى تسترد الأموال.

وكتب نصري الجوزي مسرحية "العدل أساس الملك" في محور الحث على التمسك بالأرض، في إشارة واضحة إلى ما يحاك حولها من مؤامرات، وتدور حول الحائك وليد وأولاده الثلاثة "بكر ووائل وربيعة"، حيث يشرع الأب في رسم الطريق الصحيح   لأبنائه، الطريق القائم على العمل والبناء، وتواصل الصناعة والتجارة، ما يحفظ البلاد من غيوم سوداء ومطامع تحيط بها، وذلك عندما رأى شرود ولده بكر، وتساؤله عن جدوى الانغماس في حياكة الثياب بالمغزل، والحياة الجميلة تملأ بغداد وشوارعها. ويفاجأ الأب بما تسرب إلى بكر من أفكار؛ إذ يطرح على والده بيع الكوخ والأرض للوزير مقابل عشرة آلاف دينار. لكن الأب يواجه هذا الطرح بموقف مبدئي ثابت، فلا يتخلى عن أرضه، فيصرح بكر بما سمعه من ابن الوزير بأن الخليفة سيأمر بهدم الكوخ إذا لم يجرِ شراؤه، فيرفض الأب التهديد، وتجتمع كلمة أبنائه على ذلك، ويحضر الوزير بنفسه للتفاوض مع الأب، لكن الأب يعلمه بثبات أن من يفرط بوطنه الصغير فرط في حق وطنه الكبير. وفي الفصل الثاني يتبين أن الوزير قد نفذ تهديده، فمات الحائك همّاً وغمّاً، وهو يوصي أبناءه بالتمسك بأرضهم وبيتهم، فتوجه أبناؤه إلى الخليفة يشكون له ظلمه، فيستغرب المأمون الأمر ويحقق فيه، ويستدعي الوزير فيجلسه وسط دهشته في قفص الاتهام، ويدافع الوزير عن نفسه بأنه نفذ طلب الخليفة بشراء البيت والأرض، لكن الحائك رفض ذلك واعتدى على حرمة أمير المؤمنين، لكن الأبناء اعترضوا على الوزير، وأظهروا الحقائق، ما جعله يعترف بأنه إنما عمل ذلك لإدخال السرور على قلب الخليفة، فيحكم الخليفة عليه بالسجن، ويأمر البنائين بإقامة بيت جميل لأبناء الحائك، ويقدّر دفاعهم عن الأرض وتمسكهم بالحق.

من الواضح أن الكاتب كان ينتقد ظاهرة بيع الأرض، ويدعو إلى التمسك بها مقابل جميع الإغراءات أو التهديدات، محذراً من الضياع الذي ينحدر المتهاونون بها إليه.

وتناول سهيل أبو نوارة قضية التمسك بالأرض، في ظل التغيرات الحادثة في المجتمع من خلال مسرحية "زغرودة الأرض"، حيث يواجه الأب الفلاح العجوز التغير الحاصل في ثقافة الأبناء، ورغبة معظمهم في ترك الأرض والقرية والذهاب إلى المدينة، بما في ذلك من مخاطر ضياع الأرض، وتحويلها إلى أيدي دولة الاحتلال تدريجاً، فإذا كانت قضية الصراع بين الريف والمدينة ممكنة في أي بلد آخر، فإنها تعني في ذهن الأب الفلسطيني الواعي مفهوماً واحداً هو الخيانة، ويترك الأمل معقوداً، من خلال أحد أبنائه، الذي لا يستسلم لرياح التغيرات، ويقرر البقاء وزوجته مع والده. أما الآخرون، فيترك الكاتب أمرهم معلقاً، لتظل الزغرودة متواصلة، تحثّ أبناء قرى فلسطين المحتلة عام 1948 الباقية، على التشبث بأرضهم، وصناعة التغيير فيها، لا في خارجها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
وتناول إدمون شحادة قضية الأرض وعلاقتها بالإنسان، في مسرحية "بيت في العاصفة"، فأسرة الزيات القروية تواجه عواصف تهدد استقرار الأسرة وضياع الأرض، ذلك أن ياسر أبو ضهر والد نصار الابن الأكبر، الذي تركه وليداً، يعود، وفي ذلك ما يحتمل مطالبته بالأرض التي امتلكها سابقاً، وقام المختار والجد بتسجيلها باسم زوجته حفاظاً عليها من مصادرة الدولة، بل قاموا بتسجيل نصار المولود الجديد في ذلك الوقت باسم زوج أمه سالم الزيات. كذلك فإن الابن خليل يقع في غرام "إستر" اليهودية ابنة الثري، الذي يعارض هذا الزواج بقوة. وتتعقد الأمور بقدوم نصار قبل عودة "أبو الضهر" ليطالب والده ببيع قطعة أرض صغيرة، حتى يستطيع إنشاء مكتبه الخاص في المدينة، ويتطور الأمر بتفكير الوالدة جدياً في بيع قطعة أرض لاستعادة ولديها، ما يترك ردّ فعل حاداً عند سالم زوجها.

وتنكشف الأمور عن مطاردة والد إستر لخليل، وعمله على قتله، لكنه ينجو من القتل، ليُطارد على أنه هو المعتدي. ويعرف نصار أن "أبو الضهر" الكبير هو والده، الذي توفي في أمريكا، وجاء ولده ليبحث عن أخيه حسب الوصية، ليأخذه معه، فيتقاسمان الثروة الكبيرة، التي تركها والدهما، لكن حادثة محاولة قتل خليل تعيده إلى صوابه، فيقتنع بالعودة إلى أهله وقريته وأرضه حتى يعمل معهم وبينهم، بينما يدرك خليل صعوبة الموقف، فيقرر عدم استقبال إستر والعودة إلى حضن قريته والزواج بإحدى بناتها. وقد حاول الكاتب من خلال ذلك كله إعلاء قيمة ارتباط الفرد بأرضه، وإعطاء أشكال جديدة معاصرة للتمسك بها، فالتشبث بالأرض لا يعني مجرد زراعتها وفلاحتها، بل قد يكون بإنشاء المكاتب والمصانع وغيرهما، ما يقوّي جذور الإنسان في مواجهة التطورات، ويعزز بقاءه وصموده على أرضه.

وتعامل الكثير من الكتاب مع الأرض كمعادل موضوعي لفلسطين بأكملها في مواجهة الغزو والاحتلال، ومن ذلك مسرحية "في انتظار المطر" لأحمد حسين نمر، الذي جعل حقول "موعود" المجاورة لآل "أبو شنب" هي فلسطين، التي استولى عليها "الشذامنة". وحاول "برقوق" الممثل لقوى الاستعمار الغربي أن يثني الجميع عن مواجهتهم وعدم تسييج الأرض، وذلك حتى يضمن استفادته من محاصيل الحقول الأخرى (البلاد العربية). ويصور كيف اختلفت وجهات النظر بين العرب في كيفية التعامل مع لصوص الحقول، ما بين مكتفٍ بالدعاء، وآخر مكتفٍ بالخطابات والتهديد، وثالث بطلب الغوث من الناس، وكيف تركوا موعود بعيداً عن معركة إعادة حقوله، بل حاولوا منعه بشتى الطرق من مواصلة البحث عنها، والوصول إليها، بزعمهم الانشغال بحل قضية اللص، وما عليه سوى الانتظار. ويختفي ربيع المتفاعل مع القضية، ويخطط الجميع للتخلص من الشذامنة، واتخاذ الخطوات العملية لتنفيذ ذلك. وبينما كانوا يتفقون، إذ يسمعون صدى صوت العم ربيع يردد أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.

وسار ماهر أبو الحمص في مسرحيته "قرية كان اسمها زيتونة" على النهج نفسه؛ فقرية "خروبة" هي نصف فلسطين التي استولى عليها العدو، و"كفر الديك" نصفها الآخر الذي ضاع عام 1967، وقرية "زيتونة" رمز لشقيقاتها الدول العربية، التي يبذل أهلها جهدهم لتخليص أرض خروبة وكفر الديك من العدو. لكن قادتها "فريد بيك" والمختار ومن معهما يجبنون عن خوض المعركة، ويعرقلون مسيرة العمل لتحرير الأرض بكل وسيلة، مهتمين بإبقاء الواقع كما هو، ويخدعون الناس بخوض معارك وهمية لا تهدف إلى إعادة الأرض، بل يعاقبون "شرارة" المجنون بحب الأرض؛ لأنه يحاول أن يحمل السيف ليعيد ما أضاعه أخوته وأقاربه. ويترك الكاتب الأمل معلقاً على مواصلة جهود الأجيال؛ فالحاج أحمد مات قهراً بضياع "خروبة"، ولم يستمع له أحد، وابنه عمر يحاول كل جهده أن يواصل رسالة والده في استعادة "خروبة" و"كفر الديك"، والتحذير من ضياع أراضي قرية "زيتونة". وإذا كانت الصعاب كبيرة، فإن بشرى ميلاد ابن عمر، الذي يسميه باسم والده "الحاج أحمد"، هي بشرى التواصل والجهاد حتى تحرير الأرض بكاملها.

واتجه عبد اللطيف عقل إلى المرأة كرمز للأرض العربية في فلسطين، وذلك في مسرحية "العرس"، التي جعل محورها شخصية "سلمى"، التي اختطفها الغريب من الرجل المريض، وحاول الزواج بها، لكن سلمى ترفض وتواصل تطريز ثوب عرسها الأبيض، منتظرة عودة أحمد، وأحمد مشغول بإقناع الممثلين بضرورة خوض التجربة بشخوصهم الحقيقية، لكنهم يرغبون في المشاركة بمشاهدة أنفسهم على خشبة المسرح، لكن من خلال شخوص آخرين يقومون بأدوارهم. ويمارس أحمد دوره القيادي، فيبدأ التمثيل بنفسه، لكنهم يرفضون مشاركته التمثيل، ما يجعله يحاول الانتحار. لكن سلمى تتدخل، لا لتمنعه من الموت والانتحار، بل لتسمو به عن الموت العبثي إلى قرار المواجهة حتى الموت لتحقيق مشروعه الإنساني.

يحاول الغريب (الانتداب) الزواج بسلمى، وعندما يفشل يقرر تزويجها   برجلين معاً، رجل من أهلها التابعين له، والآخر هو القادم "الاحتلال". وترفض سلمى، وتواصل لقاءها بأحمد سراً، وتتطور الأحداث بسيطرة القادم على سلمى بكاملها، فيأخذ نصفها الثاني من شريكه. وتشتد مطاردة أحمد للتخلص منه، وتقترب سلمى من إكمال تطريز الثوب، ويحقق أحمد العديد من الإنجازات بكسب الكثيرين من أهله وأهل سلمى إلى جانبه. وفي المشهد الأخير، تكمل سلمى تطريز الثوب وتلبسه، لكن أحمد يُذبح أمام عينيها، ويبقى الأمل مشرقاً بجنين أحمد، الذي تحمله سلمى في بطنها.