مجلة العودة
المتنافسان

العودة - القاهرة

أخيراً القدس الشرقية. يا لها من رحلة طويلة! لكنها تستحق. عانيتُ الكثير لكي أصل إلى هنا. ما أصعب الدوريات الإسرائيلية. لا ينتمون إلى البشر.
ها هي حارتنا الضيقة كما هي، ولو مرّ ألف عام. جدرانها وشقوقها تاريخ، كل شيء فيها متقارب، حوانيتها، شرفاتها، أبوابها، وقلوب أصحابها. لا شيء فيها يتغير.
ولكني تغيرت، شيء رائع أن تلحق بركب العالم المتقدم، وتحصل على شهادة عالية لكي تعود إلى هنا فتكون فخراً لك بين أهلك.
مع الأسف، الحارة لن تتسع لأن أدخلها بسيارتي. كنت أتمنى أن يراها الجميع.
ضغط (شاهر) على فرامل سيارته الفاخرة بقوة، فأصدرت صوتاً عالياً خرج على أثره كل من بالحارة، فابتسم قائلاً:
لقد أدت الفرامل ما كنت أريد.
نزل شاهر من السيارة، فاحتضنه أبواه بكل شوق وحنين، والتفّ حوله إخوته وكل أهل الحارة. كانت لحظات رائعة. شعر بالفخر، لكن فرحته لم تكتمل؛ فعيناه تتابعان كل من حوله. أين (عزام)؟ أين منافسه العنيد الذي طالما حلم بأن يهزمه، زميل دراسته المتفوق دائماً المحبوب دائماً. تُرى على أي الشهادات حصل؟
تلفّت (شاهر) قائلاً: أين هو؟ أكيد قد علم بعودتي، فاختبأ خجلاً من الهزيمة. آن الأوان لأن يعترف بأنني انتصرت. كيف له أن يحصل من هنا على شهادة الدكتوراه في الهندسة المعمارية كتلك التي حصل عليها في أوروبا!! سأذهب إلى بيته وأواجهه.
دقّ (شاهر) الباب بهدوء، ولم تمض لحظات حتى كان الحاج (علي) يفتح بابتسامته الصافية، ورائحة البخور الطيبة تندفع من داخل البيت. احتضنه الحاج علي بسعادة وشوق قائلاً: أخيراً عاد الفارس المغترب.
ابتسم (شاهر) في مكر قائلاً: نعم يا عمي. أين عزام؟ لماذا لم يأت ليرحب بي ويهنئني؟
لاحت على وجه الحاج (علي) علامات الحيرة وهو يقول: أكيد أنه علم بمجيئك الآن، فهو يحبك كثيراً وكم حدثني بشوقه لك!
تلفّت (شاهر) حوله وقال: لا بد أنه مختبئ مني حتى لا يعترف بانتصاري عليه؛ فقد كان دائماً يتحداني ويقول إنه سيحصّل على شهادة أعلى من شهادتي.
تعجب الحاج (علي) وقال: وعلى أي شهادة حصلت يا بني.
فقال (شاهر) مفتخراً: لقد حصلت على شهادة الدكتوراه في الهندسة.
ضحك الحاج (علي) ساخراً، وهو يقول: أعتقد أنك لم تهزمه. لقد حصل هو أيضاً على شهادة عالية.
انهار (شاهر) وهو يقول: ماذا؟ كيف هذا؟ من أين، والجامعات هنا مغلقة؟ كيف أكمل دراسته؟ لا أعتقد أبداً أن شهادته أكبر من شهادتي. هل حصل على الدكتوراه؟
تبسّم الحاج (علي) وهو يقوم من مكانه قائلاً: هل تحب أن تزوره، استفسر منه كما تشاء، فأنا لا أفهم في تلك العلوم. إنه يسكن قريباً من هنا، وسيفرح بك كثيراً؛ فهو ابن بارّ يزورني كثيراً ويطمئنني عليه.
سار (شاهر) خلفه، وهو لا يصدق. أكيد أن العم (علي) لا يفهم معنى الدكتوراه، كذلك فإن (عزام) لم يأت خجلاً من الهزيمة.. سيواجهه الآن.
تنبه (شاهر) قائلاً: لكن لماذا يسكن وحده؟ هل تزوج؟
صمت الحاج (علي) قليلاً ثم قال: كنت أتمنى، ولكنه كعادته يحب الوحدة.
تعجب (شاهر) وقد دب الخوف في قلبه وقال: هل يسكن هنا بجوار هذه القبور؟
لم يردّ الحاج (علي)؛ فهنا مكان الصمت والرجاء، لكنه اقترب بهدوء من أحد القبور مغطىً بأكاليل الزهر.
وقال: السلام عليك يا ولدي، السلام عليك يا (عزام). ها هو (شاهر) صديقك وحبيبك اشتاق إليك وجاء ليزورك. سألني عن شهادتك، فأخبرته أنك حصلت على أعلى الشهادات. لم يصدق فأحضرته ليرى بنفسه. أخبرته أنك تزورني كثيراً، تزورني وتطمئنني بما بشرك به ربك، بأنك ستشفع لسبعين واحداً من أهلك، وبأنك ما زلت حياً عنده تُرزق من فضله.
لم يتمالك (شاهر) نفسهلأأأ.
ارتطمت ركبتاه بالأرض وأحاط بصورة (عزام) محتضناً إياها ومقبِّلاً وهو يقول: لقد جئت لك يا أعز صديق وأشرف منافس لكي أعترف بهزيمتي.♦