مجلة العودة

عبد الكريم الكرمي «أبو سلمى» ...شاعرُ العودة الذي بشّر الأجيال بها

عبد الكريم الكرمي «أبو سلمى» ...
شاعرُ العودة الذي بشّر الأجيال بها
 
 
محمد توكلنا/ دمشق

في بيت من بيوت العلم والدين والأدب في طولكرم ولد عبد الكريم الكرمي عام ألف وتسعمائة وتسعة ميلادي , وقد كان والده الشيخ سعيد الكرمي عالمًا من علماء الدين وشاعرًا وأديبًا , وكان كذلك أحد مؤسّسي المجمع العلمي العربي بدمشق , وأخواه هما الأديبان أحمد شاكر الكرمي وحسن الكرمي , فلا غرو أن ينشأ عبد الكريم نشأة أدبية ليكون بعد ذلك في مصافّ شعراء فلسطين اللاَّمعين .

تلقى عبد الكريم دراسته الابتدائية في مدرسة طولكرم الحكومية ، وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر انتقل إلى دمشق حيث واصل دراسته , وفي دمشق كان يحضر مجلس والده وفيه أهل علم وأدب ، فكان عبد الكريم يستفيد كثيراً من مجالس العلم ويقرأ الكتب الأدبية النافعة , وقد أتاحت له مجالس العلم هذه تكوين خبرة اجتماعية وأسهمت في إثراء ثقافته وتكامل شخصيته , وكان يلقى التشجيع من والده على حفظ الشعر الجيد وكثيرًا ما كان يطلب منه أن يلقي على مسامع الحضور في المجلس آخر قصيدة حفظها ، ويشجعه على إبراز مواهبه التي بدأت في الظهور في سن مبكرة ، ويكثر من توجيهه إلى حفظ الشعر الجيد ،ليقوى على نظم الشعر.

وفي مدرسته الثانوية التي تدعى مكتب عنبر في دمشق كان ينظم الشعر وقد تغزّل بفتاة أحبها تدعى سلمى حتى كنّاه أصدقاؤه أبا سَلمى , وقد قال فيها (الكامل) :

سلمى انظري نحوي فقلبي يخفقُ لمّا يشير إليَّ طرفُكِ أطرِقُ

وقد امتدت ثقافته العامة إلى الأدب العالمي عن طريق اللغة الفرنسية التي يتقنها، والمؤتمرات الأدبية والثقافية والسياسية التي حضرها في كثير من أقطار العالم , أضف إلى ذلك صلته

الوثيقة بالأدباء والشعراء في الوطن العربي وفي باقي أنحاء العالم .

فلسطين في شعر الكرمي

فلسطين عند الكرمي هي كل شيء في حياته فقد استحوذت عليه حتى ناجاها مناجاة الحبيب الولهان لحبيبه , وعبّر لها عن حبّه بأنّه كلما دافع عنها وحارب من أجلها ازداد حبّه لها فقال (مجزوء الرمل) :

كُلَّمَا حَارَبْتُ مِنْ أَجْلِكِ أَحْبَبْتُكِ أَكْثَرْ

وسبب ذلك امتيازها عن غيرها من الأرضين , فلا يعرف الشاعر ترابًا من المسك والعنبر يعطّر الآفاق سوى تراب بلده فلسطين :

أَيُّ تُرْبٍ غَيْرَ هَذَا التُّرْبِ مِنْ مِسْكٍ وَعَنْبَرْ

أَيُّ أُفْقٍ غَيْرَ هَذَا الأُفْقِ فِي الدُّنْيَا مُعَطَّرْ

إن دفاعه عن أرضه لا يرهقه ولا يجهده , بل يزيده شبابًا وينضِّر عودَه , وكذلك فهو يزيده شموخًا حتى يشعر بأنه نسر ينشر جناحيه في سماء فلسطين :

كُلَّمَا دَافَعْتُ عَنْ أَرْضِكِ عُودُ العُمْرِ يَخْضَرّ

وَجَنَاحِي يَا فِلَسْطِينُ عَلَى القِمَّةِ يُنْشَرْ

ثم يلتفت إلى محبوبته التي يسحره اسمها الفلسطيني , ويوحي إليه الشعر , وينظر إلى وجهها الفلسطيني الأسمر , فيتيه في سمرتها تلك السمرة الساحرة التي تشهد أن الحسن أسمر :

يَا فِلَسْطِينِيَّةَ الإسْمِ الذِي يُوحِي وَيَسْحَرْ

تَشْهَدُ السُّمْرَةُ فِي خَدَّيْكِ أَنَّ الحُسْنَ أَسْمَرْ

وهو يرى الحسن العبقري جليًّا في عينيها فكأنهما البحر الذي تتكسّر على شاطئيه أمواج مدينة عكّا :

لَمْ أَزَلْ أَقْرَأُ فِي عَيْنَيْكِ أُنْشُودَةَ عَبْقَرْ

وَعَلَى شَطَّيْهِمَا أَمْوَاجُ عَكَّا تَتَكَسَّـرْ

وهنا نرى أنّه في هذه الصورة يلتقي مع معاصره الشاعر حسن البحيري الذي رأى بلده حيفا في عيني محبوبته فقال (الكامل) :

ما أشرقتْ عيناكِ إلاّ خانَني

بصبابَتي صَبري وحُسنُ تَجَمُّلي

وتحسَّسَتْ كفّايَ مِن ألَمِ الجَوى

سَهمًا مَغارِسُ نَصلِهِ في مَقتَلي

فلقد رأيتُ بِلَحظِ عينِكِ إذْ رَنَتْ

والتِّيهُ يَكْحَلُها بمِيل تَدَلُّلِ

حيفا وشاطِئَها الحبيبَ وسَفحَها

وذُرىً تَعالتْ للسِّماكِ الأعْزَلِ

ويصرّح الكرمي أنه قد نذر شعره لأهله أهل فلسطين ولوطنه , وهذا الشعر هو الذي يجمع أهل الوطن كلّهم في الأفراح والأحزان , ولكن لولا الوطنية في شعره لفقد شعره كل حسن وطيب , فيقول (السريع) :

شِعْريَ جِسْرٌ يلْتقي فوقَه

أهـلي بما يَحْلو وما يَشْجُن

يَعْبَقُ شِعْري بِشَذا موطني

لـولاهُ لا يـزكو ولا يَحْسُن

ثم يخاطب وطنه فيطمئنه أن أهله سيبقون مخلصين له ولن يغيرهم طول العهد , وكذلك فإن الزعماء والمتزعّمين الذين أساؤوا وتاجروا بالوطن والشعب سوف يفنون وسيبقى الوطن والشعب خالدين :

يا وطني لا تَأْسَ إنّا على

عَهْدِكَ مهما طالت الأزْمُنُ

تَفْنى الزَّعاماتُ وأشباهُها

والخالدان الشّعْبُ والمَوْطِنُ

ويحارب شاعرنا أصحاب الأقلام المأجورة التي تسيء وتخون , ويعجب كيف توجد هذه الأقلام في أرض تلتهب بالأحداث المتأججة , فأصحاب الأقلام الحرة الشريفة هم الذين يعكسون نضال الشعب في ساحات القتال فيقول (الرمل) :

كيف يمشي القلمُ المأجورُ في

ساحةٍ تَجتاحُها النّارُ اجْتِياحا

في صريرِ القلمِ الحرِّ صدى

ثورةِ الشعبِ هُتافاً وصُداحا

ثم يدعو إلى محاربة الظلم مهما طال النضال حتى ينتشر العدل والصلاح والطهارة في الكون, لأن الغاصبين المحتلين يظلمون ويفجرون ويفسدون في كل أرض ينتشرون فيها , والنضال ضد الغاصبين حتى الموت إنما هو شرف للإنسان:

حارِبوا الظُّلمَ مَدى الدَّهرِ إلى أنْ يرِفَّ الكونُ طُهرًا وصلاحا

وإذا المستعمرونَ انتَشَروا

يملؤونَ الأرضَ جَوْرًا واجْتِراحا

حرِّروا الدّنيا منِ اسْتِعمارِهِمْ

شرفُ الإنسانِ أنْ يقضي كِفاحا

وقد تتبَّعَ الكرمي بشعره المصائب الفاجعة التي مرّت بفلسطين , ونظم فيها شعرًا يفيض بالعواطف الجياشة , من ذلك مطولته التي قالها لدى مصرع الشيخ فرحان السعدي الذي حكمت عليه سلطات الانتداب بالإعدام رغم تجاوزه السبعين من عمره . وقد أرادها أبو سلمى تأريخًا لجهاد فلسطين العربية منذ اليوم الذي استشهد فيه عزالدين القسام إلى نهاية الثورة ، يقول (مجزوء الكامل المرفّل):

انثرْ على لهبِ القَصيدِ

شكوى العبيدِ إلى العبيدِ

قوموا انظُروا فرحانَ

فو قَ جبينهِ أثرُ السجودِ

يمشي إلى حبلِ الشهادةِ

صائمًا مَشيَ الأسُودِ

سبعون عامًا في سبيــلِ

اللهِ والحقِّ التَّليدِ

خجِلَ الشبابُ مِن المَشيــبِ

بلِ السِّنونَ من العُقودِ

وكان يتتبع أخبار المقاتلين في جبل نابلس الذي سمّي جبل النار لكثرة المعارك التي دارت رحاها فيه , ويثني على المقاتلين ويحثُّهم على متابعة مسيرة النضال :

أيها الثائرونَ في جبلِ النارِ

سلامًا يا زينةَ الأبطالِ

لكمُ اللهُ يا حماةَ فلَسطيـ ـنَ

زَحَمْتُمْ مصارعَ الآجالِ

تَحملونَ الأرواحَ فوقَ أكُفٍّو

تبيعونَها ولكنْ غَوالي

إنَّما الحقُّ مِن بنادِقِكُمْ يَسـ ـطَعُ

والعدلُ مِن وراءِ العَوالي

ومما يدلّ على ولهِ شاعرنا بفلسطين قصيدته (سنعود) التي كانت في بدايتها عن دمشق المدينة التي عاش فيها , وإذ به ينتقل فجاءة من ذكر دمشق في القصيدة إلى فلسطين , فيقول عن دمشق (الوافر) :

خَلعتُ على ملاعبِها شبابي

وأحلامي على خُضْرِ الرّوابي

ولي في كلِّ مُنْعَطَفٍ لقاءٌ

مُوَشىً بالسلام وبالعِتابِ

ثم إن الشاعر يلتفت لمخاطبة دمشق ليذكّرها بمغامراته في آفاقها المعطرة وهو كالطير الذي عطّره شذاها فطار يجول في سمائها فوق السحاب :

سلي الأفق المعطر عن جناحي

شذى وصِباً يرف على السحابِ

وينتقل الشاعر في خطابه إلى فلسطين التي عذّبه الغياب عنها حتى حرمه النوم , وتمر بباله ذكرياته الجميلة فيها , إنه يشعر بأنه لا يطيق الحياة بعيدًا عنها :

فلسطين الحبيبة كيف أغفو وفي

عينيَّ أطياف العذابِ

تمرُّ قوافلُ الأيام تروي

مؤامرة الأعادي والصّحابِ

فلسطين الحبيبة كيف أحيا

بعيدًاعن سهولك والهضابِ

إنه لشدّة حنينه يسمع نداء السفوح اتي تخضّبت بدم الثوار والشواطئ الباكية من ظلم المستعمر والجداول الشاردة التي شرّدها بُعد أهلها عنها وكذلك المدن وقباب المساجد التي تيتمت أيضًا :

تناديني السُّفوحُ مخضَّباتٍ

وفي الآفاقِ آثارُ الخضابِ

تناديني الشّواطئ باكياتٍ

وفي سمعِ الزمانِ صدى انتحابِ

تناديني الجداولُ شارداتٍ

تسيرُ غريبةً دون اغترابِ

تناديني مدائنُكِ اليتامى

تناديني قراكِ مع القِبابِ

والذي يلفت النظر في أبياته السابقة تكراره لكلمة ( تناديني ) والتي تدل على الشوق الشديد والهيام من بعيد , ولكن ليس الكرمي هو المتشوّق وحده إلى أرض فلسطين , ولكنّ أصحابه يتشوّقون إلى العودة إليها فهم يسألونه :

ويسألني الرفاق ألا لقاءٌ

وهل من عودة بعد الغيابِ

ويجيب الكرمي بكل ثقة :

أجلْ , سنقبلُ التربَ المُنَدّى

وفوق شفاهنا حُمْرُ الرِّغابِ

غدًا سنعود والأجيال تصغي

إلى وقع الخطا عند الإياب

نعود مع العواصفٍ داوياتٍ

مع البرقِ المقدَّسِ والشِّهابِ

مع الأمل المجنّحِ والأغاني

مع النَّسرِ المُحَلِّقِ والعُقابِ

مع الفجرِ الضَّحوكِ على الصّحارى نعود مع الصباحِ على العُبابِ

مع الراياتِ داميةِ الحواشي

على وهَجِ الأسِنَّةِ والحِرابِ

أجل ستعود آلافُ الضَحايا

ضحايا الظُّلمِ تفتحُ كلَّ بابِ

ويلفت النظر تكرار الألفاظ التي تحمل معاني العودة ( هل من عودة- سنعود – نعود - ستعود) ويدل ذلك على الإصرار , وكذلك تكرار كلمة

( مع ) التي فيها المعية ؛ فالعودة سيشارك فيها كل شيء, الأجيال والعواصف والبرق والشهاب والفجر الضحوك , وضحايا الظلم ستفتح كل باب كان موصدًا دونها .

تكريمه

نال أبو سلمى درع الثورة الفلسطينية , ومنح جائزة لوتس العالمية ، كما منح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون , وكذك سمي باسمه أحد الشوارع في دمشق .

توفي في الحادي عشر من الشهر العاشر للعام 1980 في العاصمة الأمريكية بين يديّ ولده الوحيد الدكتور سعيد الكرمي، الذي حرص على نقله، بناءً على وصيته ، إلى دمش، وشهدت العاصمة السورية، في وداعه ، واحداً من أكبر مواكب التشييع في تاريخها ، ودفن مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك بعد أن ترك إرثًا ثقافيًّا وأغنى المكتبة العربية بدرر الشعر والنضال . ♦