مجلة العودة

فلسطين في الكاريكاتير المصري "الحلقة الثانية"

فلسطين في الكاريكاتير المصري "الحلقة الثانية"
فنّان صنعه رفضه لـ"وعد بلفور
"


عبد الرحمن بكر - القاهرة


ما زالت الريشة تقاتل. هكذا عرفناها، وهكذا صنعت لنفسها صرحاً ينتصب عليه مدفع الأفكار، وخطّت لنفسها مكاناً واسعاً في تاريخ الصحافة، وستظل تُلخص كل القضايا الشائكة في خطوط قوية رشيقة تقفز نحو هدفها لتُزيل الحُجب أمام القارئ، وتُظهر له كل الحقائق واضحة جلية.

ولأن الريشة المصرية صاحبت القضية الفلسطينية منذ بدايتها، وتوحدت مع حق الشعب الفلسطيني الأبيّ في الصمود وتحدي الاحتلال، والتطبيع، والتهويد... في أن يعود مَن شُرِّدوا وأُبعدوا، إلى حضن الوطن الأم برؤوس شامخة، في أن يعود الأقصى إلى مكانه ومكانته بلا أغلال...

فقد ظل مدادها يؤرق الاحتلال الصهيوني، ويسخر منه، ويُتفهه، ويقف في وجه مؤيديه.

وعند هذه النقطة يجب أن نتوقف. نعم، فنحن أمام فنان مصري عريق صنعه رفضه لتأيد بريطانيا لوعد "بلفور".

إنه أحد الفرسان المصريين الثلاثة الذين نجحوا في تمصير الكاريكاتير، وتحويله من فنٍّ أجنبي، يرسمه أجانب في صحف مصر، إلى فنٍّ مصري أصيل يُعبّر عن رأي الشعب، ويحافظ على مقدراته. وهم على التوالي "رخا، زهدي، عبد السميع"، وقد سبق أن تحدثنا عن الفنان محمد عبد المنعم رخا، ونحن الآن أمام هذا الفنان القدير "زهدي العدوي" الذي ارتبط تاريخه، سواء في المولد أو في النشأة الفنية بوعد بلفور. فقد ولد في عام 1917 حين جاء وعد "بلفور" ليُنشئ للصهاينة دولة يُقيمها على أرض عربية اغتُصبت بقوة السلاح، وبتواطؤ عدد من القوى الاستعمارية. وفتح بذلك الأبواق للإعلام الإسرائيلي الصهيوني ليطمس الحقائق ويروج لمقولة "إن إقامة الدولة العبرية تستند إلى استعادة حق تاريخي"!

هكذا، في هذا العام، كان ميلاد هذا الفنان. أما نشأته الفنية، فقد صاحبت حبَّه للرسم وتخصصه في النحت، ودراسته له في مدرسة الفنون، بينما كان يكسب رزقه من رسم البورتريه، إلى أن جاء موعده الثاني الذي حدده له القدر ليُغيّر مجرى حياته، وكان أيضاً مع وعد "بلفور".

ففي عام "1936" خرج تصريح "صمويل هور" وزير خارجية بريطانيا الذي يؤكد فيه، ويؤيد وعد "بلفور" بمنح اليهود جزءاً من أراضي فلسطين!! فخرجت يومها تظاهرة وطنية هائلة قام بها طلبة جامعة فؤاد الأول "جامعة القاهرة حالياً"، احتجاجاً على هذا التصريح. وكان يومها الفنان "زهدي العدوي" يجلس مع صديق له في شرفة منزله قريباً من كوبري "عباس"، ورأى كيف أن البوليس الحربي أحكم تطويق التظاهرة ليمنعها من المرور من فوق الكوبري، وجاءت الأوامر من الكونستابل الإنجليزي برفع الكوبري لمنع التظاهرة من العبور، وعندما رُفع سقط الكثير من الطلبة في مياه النيل، وأسرعت بعض الزوارق لنجدتهم، بينما نجحت مجموعة من الطلبة في الوصول إلى مكائن تشغيل الكوبري، وأنزلوه مرة أخرى لتعبر من فوقه التظاهرة العظيمة التي بدت كتنين هائل يعبر إلى الضفة الأخرى، وقد تعالت الهتافات بسقوط الإنجليز والصهاينة، ووعد " بلفور" الملعون.

لم يتحمل "الكونستابل" الإنجليزي كل هذا، فأصدر أمراً بإطلاق الرصاص الحيّ على التظاهرة، فسقط الكثير من الطلبة، واستشهد على الفور بطلهم الذي كان محمولاً على الأكتاف "الشهيد عبد المجيد مرسي"، بينما أسرع أحد الشباب الأقوياء واسمه عبد الحميد الجراحي بشق الصفوف والوصول إلى "الكونستابل" الإنجليزي، وهاجمه وكاد ينتزع منه سلاحه، لكن بعض الجنود حاصروه وقاموا بتكتيف يديه، فانتهزها "الكونستابل" فرصة، وأخرج مسدسه وأطلق على صدره ستّ رصاصات، فسقط شهيداً على الفور.

في لحظات، وجد الفنان "زهدي" نفسه وسط التظاهرة، وكأن شيئاً ما يدفعه إلى عالمه القادم وهتافه لا يتوقف. وبدأت المطاردة المسلحة تقتحم التظاهرة، وكثر الشهداء، ونجح الإنجليز في تفريق الطلبة في الشوارع الضيقة والحواري الجانبية، لكنهم لم ينجحوا في تفريق الصور المتلاحقة التي كانت تتصارع في عقل هذا الفنان المذهل الذي انطلق نحو أوراقه وحبره الأسود ليرسم بريشته كل مآسي الاحتلال، رسم التظاهرة، والشهداء، وسخر من الكونستابل الإنجليزي، وببلفور مجرم بريطانيا، وسار في الطرقات يحمل لوحاته، وتمنى أن يلصقها على كل الجدران. لكنه حينما نظر إلى الجدران، وجد إعلاناً لمجلة سياسية جديدة "مجلة غريب.. أقرأوا مجلة كل المصريين"، فاتجه بخطواته نحو المجلة، وعرض رسومه على رئيس تحريرها الأستاذ "محمد علي غريب" الذي توافق معه في إيمانه بأن الاحتلال زائل، وأن الريشة يمكنها المقاومة، ونشر الرسوم، وتحمل معه الاعتقال ومصادرة المجلة.

من هنا كانت البداية كما كان المولد، ومن يومها صارت رسومه الكاريكاتورية هي السلاح الفاضح لممارسات العدو الصهيوني، وحلفائه من المحتلين البريطانيين، وانتقل برسومه من مجلة إلى أخرى مثل "فصول" و"الملايين" و"كلمة ونص" و"المطرقة" وغيرها. لكن شهرته الحقيقية جاءت حين أراد الرسام الإسباني " سانتيس" العودة إلى بلاده وترك مكانه فارغاً في مؤسسة دار الهلال، فعمل زهدي مكانه، واهتم في تلك الفترة بالقضية المصرية والاحتلال.

وعندما بدأت مأساة فلسطين في منتصف الأربعينيات، كان زهدي يعمل في مجلة "الزمان" التي كان يموّلها كريم ثابت، المستشار الصحافي للملك فاروق، ومع ذلك هاجم الصهيونية والاستعمار هجوماً عنيفاً، ولم يقبل بالتراجع عن موقفه رغم محاولاتهم له بالإغراء المادي ومضاعفة الأجر. رفض، ورفض، وكان نصيبه الطرد من العمل ومنع رسومه من النشر عندما رسم تعليقاً على الأسلحة الفاسدة المتورط فيها الملك فاروق نفسه، واعتُقل بعدها. وبعد خروجه من السجن كان من الطبيعي أن يجد أبواب الصحف والمجلات مغلقة أمامه، إلى أن قامت ثورة يوليو 1952، فوقف في صفها، لكن بعدها بعام اعتُقل وسجُن مع مجموعة من الصحافيين الثائرين خوفاً من إثارة المشاكل، وخرج بعدها ليعمل في مجلة روز اليوسف، ويُكمل مسيرته في الصراع ضد الاحتلال، والظلم لكل الشعوب العربية، ويطالب بالمساواة والعدالة الاجتماعية. وصاحبت رسومه القضية الفلسطينية وظل بقية عمره ينتقل من جريدة إلى سجن، إلى أن وافاه الأجل المحتوم عام 1994 عن عمر 77 عاماً.

وقد كان من حسن قدري أن رافقته في سنواته العشر الأخيرة وتتلمذت على يديه، وجمعت الكثير من أعماله، وكان لي معه الكثير من الحوارات، حتى إنني حدثته يوماً عن غلاء الخامات الفنية وارتفاع أسعارها، ما يُعوق الفنان عن تنفيذ أفكاره، فقال لي قولته التي لا أنساها: "الفنان يرسم ولو بعود ثقاب محترق". الإمكانات لا تعوق الموهوب عن توصيل الفكرة. وكان يرفض أن يرسم الرسام بالريشة بوضع فيه انحناء، ويقول إن الريشة يجب أن تظل قوية كالرمح؛ لأنها قادرة على أن تفعل. ♦