وزاراتٌ وهيئاتٌ تتأهّب، وكالاتٌ وسفاراتٌ تتجنّد، ساسةٌ ومتحدِّثون ينخرطون.
إنها حملات التعبير عن العقدة الوجودية المزمنة.
تستنفر المنظومةُ أدواتها ومتحدِّثيها كلّما تحسّست مخاطر قادمة من زيارة،
أو مؤتمر، أو رسالة، أو لفتة عابرة. سرعان ما تبدأ عملية النهش التي تُمعِن في جسد
ضحيّتها.
لهذه العقدة خلفيّاتها الذاتية وملابساتها الموضوعية. فمن اقتاتوا على
"شرعية تاريخية" تتملّكهم الخشية المتأصِّلة من مستجدّات اليوم وتحوّلات
الغد. إنهم يرهبون الحاضر ويتحسّبون من الآتي.
من يَعجَز عن فهم الظاهرة؛ معنيّ بإدراك الخلفيّات. فالأطر التي أدمنت
بيانات المنافحة عن "الشرعية" و"وحدانية التمثيل"؛ مسكونة أساساً
بأعراض ما بعد الشيخوخة السياسية. ينسى بعضُهم أنّ تشكيل بعض هذه الأطر يعود إلى أربعة
عقود تقريباً. لم يتمّ ذلك التشكيل آنذاك بمواصفات ديمقراطية أو معايير شفّافة. والواقع
أنّ معظم الشعب أبصر النور ليجد الهياكل والوجوه والألقاب على حالها التي هي عليها
اليوم تقريباً.
هو مسلك التحنيط الذي لا يحتمل المناقشة أو المساءلة أو المحاسبة، ولا
يملك سوى التبرير المتواصل للانغماس في مزيد من الخطايا وخوض متوالية الإخفاقات. تبرير
يتولّى كبره حاملو ألقاب السياسة والثقافة والإعلام ومن أُسبغت عليهم مناصب دينية؛
مع وفرة من العطايا والامتيازات.
فوّتت الساحة الفلسطينية فرص التغيير مراراً، واستسلمت الأطُر لهواجسها
المتكرِّسة ومخاوفها المتأصِّلة. هكذا نضجت صناعة التحنيط السياسي؛ تحنيط الأطر والهياكل،
وتحويل القادة إلى رموز صنمية جوفاء. وقد يمتدّ العمر الافتراضي لقائد الرّكب والفصيل
نصف قرن، محفوفاً بشعارات الديمقراطية، لا يزيحه عن سدّته سوى الأجل المحتوم أو انقلاب
أبيض من رفاق طاعنين في السنّ.
هي الرؤوس التي اشتعلت شيباً في سعيها الجاهد لعرقلة دورة الأجيال؛ في
تعبيرها الكامن عن خشية الاستبدال. تتفاقم معضلتها مع انهيار المشروع والتملّص من مواصفاته
الوطنية، فيتضخّم اكتراثها بالتفاصيل ذات الدلالة الرمزية، فالرمز يستحيل بديلاً عن
الجوهر كما استحال البساط الأحمر بديلاً عن السيادة.
ولأنّ الساحة مسكونة بعقدة التمثيل؛ فإنّ جولات الاقتراع في أيِّ مستوى،
تأتي محفوفة باهتمام هائل؛ سياسياً وإعلامياً. يُقدَّم "انتصار" في نقابة
مهن صغيرة على أنّه "استفتاء شعبي والتفاف حول الشرعية". أمّا التصويت الذي
يتعاقب كلّ موسم على الجامعات والكلِّيات والمعاهد؛ فهو مدعاة لاستنفار هائل يرنو لإنجاز
"الفوز الساحق والنصر الكاسح".
هم المسكونون بعقدة التمثيل والاستبدال؛ إذ يحتفظون بمفاتيح دولة ليس
لها باب.
تتراكم المطالب على أعتابهم: أن تحرّكوا في المنابر الدولية؛ نافِحوا
عن قضية شعبكم وحقوقه في "الجنائية الدولية" وأخواتها. يأتي ردّهم بحملة
دولية لمطاردة جواز سفر رمزي حازه عالم مرموق يوم أن زار غزة.
هم من كرّسوا سفاراتهم وسفراءهم لخوض التجاذبات ذاتها على طريقة اتحادات
الطلبة ونقابات المهن. نقلوا المعركة إلى مستواها الدولي؛ تعبئةً وتحريضاً إن تطلّب
الموقف منهم مزيداً من المنافحة. لا تعود السفارة بيتاً للشعب في شتاته؛ بل عبئاً عليه.
هم من حوّلوا إعلام الوطن من مهمّة النهوض بالقضية والتصدِّي للاحتلال
في شتى الأصعدة؛ إلى أجهزة دعاية موجّهة للاحتراب الداخلي، وموظّفة لملاحقة الطرائد
في الإقليم العربي.
كلّما تضخّمت عقدتهم؛ تقزّم الوطن في عيونهم. فمن تتملّكه عقدة كهذه يسهل
استعماله وتوظيفه وتوجيهه؛ إرغاماً على إبرام الاتفاقات المُجحِفة، واستدراجاً إلى
مجالسة العدوّ تعاوناً وتنسيقاً وتواطؤاً. هي ضريبة بقاء فاقدي الشرعية وثمن استمرارهم.
تمتدّ الوقائع التي تكشف عن "الدولة" المُبحرة في الاتجاه الخاطئ،
وكيف تُمسِك عقدة التمثيل والاستبدال بخطامها، فتمضي بها إلى مسارٍ محتوم؛ يفضي إلى
الخروج من التاريخ بعد تمزيق الجغرافيا.♦