مجلة العودة

مقابلة ثقافية: الناقد الفلسطيني حسام الخطيب يتحدث عن النقد وهمومه - وحيد تاجا

الناقد الفلسطيني الدكتور حسام الخطيب
أولويات المثقف العربي هي أن يحسن ثقافته الوطنية الخاصة

وحيد تاجا/ دمشق

رأى الناقد الفلسطيني الدكتور حسام الخطيب أن أولويات المثقف العربي اليوم هي أن يحسّن ثقافته الوطنية الخاصة أولاً. وأشار في حديث مع «العـودة» إلى أن الثقافي يجب أن يكون واعياً باتجاه السياسي.. وعلى كل مثقف أن يكون بطلاً مجنداً نفسه لحماية الديموقراطية والحرية. وأعاد الدكتور الخطيب العلاقة المتوترة بين الناقد والمبدع في مجتمعاتنا العربية إلى أننا نعيش في مجتمعات غير ديموقراطية ومغلقة، مشيراً إلى أن نظام التعليم والنظام الأبوي الذي ورثناه أباً عن جد هو ضد النقد الذي يصبح مقبولاً في مجتمع ديموقراطي منفتح يعترف بالرأي والرأي الآخر، ويؤمن بوجهات النظر المختلفة وبحرية التعبير والكتابة.

«العـودة»: بداية، ما هو مفهومكم للثقافة اليوم؟ وهل اختلف هذا المفهوم في ظل ما نشهده من تطور علمي وتقني؟

أنا أنتسب إلى جيل قديم كان مصطلح الثقافة عنده يحوم حول الأدب شعراً ونثراً بالتحديد. وكان بعض أساتذتنا في جامعة دمشق خلال منتصف خمسينيات القرن الماضي يرجعوننا إلى المعجمات القديمة التي كانت تفيد بأن الثقافة هي تصحيح المعوج وتسويته، ومنه تثقيف عصا الرمح، أي إزالة العقد منه فهو مثقف، وبوجه عام كان التثقيف هو تسوية الأمر أو الشيء أو تهذيبه.

وبالطبع كنا نحصر دلالة هذه الكلمة بالأدب وأحياناً بالسلوك الاجتماعي. ولكن بالتدريج تطور مفهوم هذه الكلمة، وأخذت تشمل رياضة المَلكات البشرية وتهذيبها وتنشيطها أيضاً، ثم خرج المفهوم من نطاق العقل والسلوك والذوق والأدب وتوسعت دلالاته لتشمل العلم، فهناك مثلاً ثقافة علمية وثقافة حضارية واجتماعية. إلا أن كلمة «مثقف» بالذات ظلت مرتبطة بالأدب والمعرفة والاطّلاع.

وبعد الاختلاط بالمجتمع الغربي توسع مفهوم الثقافة، ليشمل الموسيقى وآداب السلوك. ثم ظهر مفهوم الثقافة الأدبية والثقافة العلمية والثقافة الاجتماعية، وأخيراً الثقافة الرقمية، أي إتقان استعمال الحاسوب والتقنيات المتعلقة به. ولكن ظلت الكلمة شديدة الارتباط بالأدب وسعةِ أفق الإنسانيات بوجه عام. كذلك ارتبطت بمجمل الثمرات المعرفية لمجتمع ما.

وهكذا يتطور المفهوم مع تطور الحضارات واختلاف أنماط العيش والسلوك والمعرفة بها. وقد صحّ لديّ أخيراً أنه ينبغي أن يُتبع المصطلح بصفةٍ ذات دلالة خاصة مثل الأدب والعلم والمعرفة وسعة الاطلاع والفهم والذوق، والسلوك الاجتماعي الرفيع، وغير ذلك.

«العـودة»: إذا حاولنا إعادة ترتيب الساحة الثقافية والفكرية في العالم العربي، فما هي الأولويات التي ستحظى باهتمامك، بمعنى آخر ما هي أولويات المثقف العربي في هذه المرحلة برأيك؟

أولويات المثقف العربي هي أن يحسن ثقافته الوطنية الخاصة أولاً، وأن يحرص على المرونة واتساع المعرفة، وأن يخرج من نطاق المسلمات الرائجة، وذلك من خلال متابعة ما يجري في مجتمعه اللغوي والمعرفي، ثم التفاعل مع الثقافات الأخرى ومع التطورات العلمية والاجتماعية العصرية. وبالطبع، لا يمكن التوصل إلى هذا الهدف إلا من خلال التجاوب مع المناخ العام على المستوى العالمي.

«العـودة»: كيف تنظر إلى تأثير السياسي على الثقافي؟ وبالتالي كيف ترى طبيعة العلاقة بين السياسي والمثقف؟

أعتقد أن كل الشواهد تدل على أن الثقافي يجب أن يكون واعياً باتجاه السياسي. وفي مجتمعنا العربي يختلط حابل الثقافة بنابل السياسة.. لقد صحّ لديّ أن الانخراط السياسي للمثقف يقوي نظرته إلى نفسه ويبقى له صلةً بالواقع الحيّ بدلاً من التهويم في الأجواء البوهيمية التي تقوده إلى الغموض والإبهام والعزلة الشخصية والتقوقع حول الذات والتعالي على جمهرة القراء من خلال الإغراب والغموض الفكري واللغوي المتعمد.

«العـودة»: وأين تقع الديموقراطية في سلم أولويات المثقف؟

الديموقراطية أولاً والديموقراطية أخيراً. وهي المناخ الذي لا ينبثق الإبداع إلا في ظله، وكل مثقف يجب أن يكون بطلاً مجنداً نفسه لحماية الديموقراطية والحرية، لأن الإبداع بكل بساطة لا يمكن أن ينبت في مناخٍ مكبلٍ بالقيود أو الخطوط المجمدة.

«العـودة»: هل ترى أن المثقف العربي استطاع أن يستوعب مفهوم الحداثة فعلاً وينتهي من إشكالياتها؟

إن حركة الحداثة هي انتفاضة صارخة أحدثت ثورة في الإبداع الأدبي والفني وكانت ضرورية في إبّانها، إلا أنها تحولت بالتدريج إلى قيدٍ منمطٍ قد يناقض بواعثها وتطبيقاتها. وهذا يفسر سبب الهرب السريع إلى ما بعد الحداثة Post Modernism.

بصراحة تحوّل الجدال بين الطرفين إلى نوع من السفسطة أدى إلى تشوّه الإبداع واختلاط الحابل بالنابل، وأحياناً إلى ضياع المرسِل والمتلقي معاً، وضياع النكهة الخاصة للنص الأدبي والأداء الفني، ولا سيما الشعري. وهكذا تضاءلت أصداء ما كان يسمى شعراً، وأصبحت الرواية هي النثر والشعر والتاريخ وعلم النفس وعلم السياسة وعلم الاجتماع وعلم التاريخ والديانة، والله أعلم بما سيحدث حين تمتد الرواية إلى الاقتصاد أو الطب وربما إلى الفلك. وأنا هنا أعني ما أقوله حرفياً.

«العـودة»: إذا انتقلنا إلى الخطاب النقدي العربي، فكيف ترى وضع النقد الأدبي العربي الحديث اليوم، وهل استطاع النقاد العرب المعاصرون أن يبلوروا نظرية خاصة في النقد الأدبي العربي؟

اسمح لي، قبل أن أجيب عن سؤالك هذا، أن أستعين بعض الشيء بمكتبتي فأنا أخشى الإجابة بسرعة عن مثل هذه الأسئلة.

لقد وجدت، كما كنت أتوقع، أن العناوين النقدية النظرية تؤول في معظمها إلى الترجمة أو الاقتباس من النظريات النقدية الغربية التي أصبحت عالمية فعلاً منذ انطلاق موجة الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين.

ويكفي هنا أن يقرأ المرء كتاب الناقد الجزائري حفناوي بعلي (الفائز بجائزة الأدب والشعر في الحملة الأهلية للقدس عاصمة الثقافة العربية 2009): مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن ليجد أن معظم مراجعه النقدية هي من الكتب المترجمة عن اللغتين الفرنسية والإنكليزية 97 مرجعاً، وهناك أيضاً تسعة مراجع باللغة الفرنسية، وذلك مقابل 85 مرجعاً باللغة العربية، معظمها أقرب إلى المترجم، وجزء كبير منها يتعلق بالنقد الأدبي العربي، وهو نقل ملطف ويا ليته ترجمة. وهذا بالطبع أمر مفروغ منه، ومنتشر في كل ما نطالعه من نقدٍ حداثي.

وهناك أيضاً كاتب جزائري آخر فاز في العام الماضي (2009) بجائزة المؤلف الشاب في الأدب (جائزة الشيخ زايد)، وهو الدكتور يوسف أوغليسي، بكتابه الشامل: إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد. ومن خلال مراجع الكتاب وإحالاته الدقيقة يتضح تماماً أن مرجعية تذوق النص العربي أصبحت أسيرة تماماً للنقد الغربي. وللإنصاف، لا يجوز أن نهمل المحاولات الجادة القليلة لنقاد عرب في المشرق والمغرب قدموا آراء جادة للمصالحة بين النقد العربي القديم والحديث من جهة والنظريات النقدية الحديثة التي يمكن أن تتفاعل مع شخصية أدبنا العربي.

هكذا نجد أن حديث النقد الأدبي العربي يطول ويعرض ويصعب إطلاق الأحكام المتسرعة بشأنه، لأن التطورات الأدبية الغربية أصبحت أقوى من أية جهة دفاعية في أية منطقة أخرى من العالم المعرفي، وهي ذاتها في حالة تطور مرعب، وذلك نظراً لتجدد المجتمعات الغربية نتيجة للتحول السريع إلى عصر الرقمية والمعلوماتية والاكتشافات الفضائية المذهلة.

وليس المقصود هنا دعوة للانقطاع عن المناخ الأدبي والنقدي العالمي، بل المقصود هو التفاعل الحي الواعي مع تطورات العصر.

«العـودة»: ما زالت العلاقة بين الناقد والمبدع في مجتمعاتنا العربية غير صحيحة ويشوبها الكثير من التوتر، فما أسباب ذلك؟

السبب ببساطة أننا نعيش في مجتمعات غير ديموقراطية، مجتمعات مغلقة، المدرس فيها هو الذي يعطي كل الحقائق، والطالب لا يبحث عن أية حقيقة! وبالتالي فإن نظام التعليم والنظام الأبوي الذي ورثناه أباً عن جد هو ضد النقد الذي يصبح مقبولاً في مجتمع ديموقراطي منفتح يعترف بالرأي والرأي الآخر، ويؤمن بوجهات النظر المختلفة وبحرية التعبير والكتابة، وبأن المبدع شخص غير منزّه، وكتاباته غير مقدسة، وهو إنسان كغيره يحتاج إلى من يتحاور معه وإلى من يقوّم كتاباته.

«العـودة»: تعكف حالياً على كتابة سيرتك الذاتية، هل يمكن أن نسمي ما ستكتبه أدباً، أم نقداً ذاتياً؟

السير الذاتية بالنسبة إليّ من أحلى الكتابات الأدبية وأجملها، وهي نوع أدبي إذا كان كاتب السير من أهل الأدب ويكتب سيرته الأدبية لا الاجتماعية، بحيث يشرح فيها كيف فهم الأدب وكيف طوّر أدبه وآلية تفكيره. وأرى أن هذه النوعية من الكتابات تتطلب أن يكون صاحبها صريحاً، وللأسف فإن مجتمعاتنا العربية ترفض مثل هذه الصراحة في أن ينتقد صاحبها نفسه ويعترف بأخطائه على الملأ، في الوقت الذي يصبح فيه ذلك مقبولاً ومحترماً في مجتمعات أخرى، بحيث إن معظمها يصدر تحت عنوان «اعترافات».

«العـودة»: وماذا عنك؟ وهل ستبدو سيرتك الذاتية مثالية كأغلب السير الذاتية العربية التي تبدو مصفّاة من الأخطاء، فيبدو فيها صاحبها معقماً؟

هذا الموضوع يؤرقني كثيراً، لأن مجتمعات مثل مجتمعاتنا فيها حدود للكلام، وحيرتي تكمن في كيف يمكن أن أخرج سيرتي الذاتية بصيغة أدبية ليتفهمها الآخرون في مجتمع لا يستطيع فيه الإنسان انتقاد نفسه على الملأ! لذلك، يبدو أن المخرَج لن يكون إلا بسيرة ذاتية أدبية، وليست سيرة شخص اسمه حسام الخطيب، ولكن أعترف بأنني لو كنتُ في بلد آخر لما توانيت عن الكلام بحرية في كل شيء.

 

ـ من مواليد طبريا- فلسطين عام 1932، حاصل على دكتوراه في الآداب (مقارن عربي أوروبي) من جامعة كامبريدج 1969.

ـ شغل مهمات عديدة منها: معاون وزير التعليم العالي، دمشق 1974-1976.

ـ رئيس قسم اللغة العربية في جامعة دمشق طوال السبعينيات والثمانينيات.

ـ عميد كلية التربية ثم كلية الآداب التي أنشأها في مدينة تعز- اليمن 1989 إلى 1993.

ـ خبير ثقافي، مؤسس ومشرف على مركز الترجمة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث. ثم في ما بعد في وزارة الثقافة والفنون والتراث - الدوحة، 2004 وحتى الآن.

حصل على العديد من الجوائز منها: جائزة الملك فيصل العالمية في مجال الأدب العربي، الرياض 2002. ومنحة فولبرايت الأمريكية للبحث العلمي، جامعة إنديانا 1987-1988.