مجلة العودة

إعادة نظر: الزحف على بساط الريح - بلال الحسن

الزحف على بساط الريح

بلال الحسن

الزحف الشعبي الفلسطيني والعربي الذي جرى يوم 15 أيار/ مايو نحو فلسطين، وبعد 63 عاماً من النكبة، سيدخل التاريخ باعتباره يوماً يشير إلى مرحلة جديدة من الصراع مع الصهيونية على فلسطين.
 
ثمة نوع من الأحداث يبدأ صغيراً ثم يتطور من دون أن يعرف أحد كيف، ويسفر تطوره مع الأيام عن ثمرة يانعة، ويتعجب كل إنسان ينظر إليها كيف أصبحت على حالها هذه، وهي بدأت شيئاً عادياً، لتصبح بعد ذلك أمراً مفروغاً منه، تتنفسه كما تتنفس الهواء من حولك. أمر لا تستقيم الحياة إلا به.

عام 1993، وعشية توقيع اتفاق أوسلو، تنبه المواطن الفلسطيني إلى كلمة ناقصة في الاتفاق. إذ لا شيء فيه يشير إلى العودة إلى فلسطين. وولدت هكذا.. دون تفكير عميق، ربما من أعماق الحذر غير المحسوس، الفكرة الداعية إلى التركيز على (حق العودة). وبالانطلاق من هذا الإحساس، تجمع أشخاص هنا وهناك، بعفوية، وألّفوا لجنة صغيرة متواضعة حملت اسم لجنة حق العودة. وكما يحدث في قصص المعجزات، تبين أن هؤلاء القلة من الأفراد، الذين تجمعوا في مكان ما بالصدفة، لهم مثيل في مكان آخر قريب، وفي مكان آخر بعيد، في مخيم اليرموك مثلاً قرب دمشق، وفي مخيم النيرب مثلاً، قريباً من حلب. وفي حال يشبه الدهشة أيضاً، تبين لهؤلاء القلة أن مثيلاً لهم قد فعل الشيء نفسه، واستعمل الكلمات نفسها، في مدينة تدعى لندن، أو في بلد اسمه تشيلي في أقاصي أميركا اللاتينية. هكذا، كما تحصل المعجزات من دون أن يدري أحد كيف، أصبح العالم كله مسكوناً بلجان تسمى لجان حق العودة، وهي اللجان التي أسقطت اتفاق أوسلو.

اليوم يتكرر الشيء نفسه في المنطقة العربية، وهو يتكرر من خلال الزحف الشعبي الذي جرى نحو فلسطين. ولدت الفكرة بهدوء وبساطة. ونفذت أيضا بهدوء وبساطة، وفي وضح النهار. ذهبت حفنة من الشباب نحو فلسطين. انطلقوا من لبنان نحو فلسطين. وانطلقوا من سوريا نحو فلسطين. وانطلقوا من الأردن نحو فلسطين. وانطلقوا من مصر نحو فلسطين. ولا أحد يدري حتى الآن كيف جرى التحرك لتنفيذها، وكيف فكر شاب من مخيم عين الحلوة، تماماً بالطريقة نفسها التي فكر فيها شاب من مخيم الوحدات في عمان. لم يكونوا ملايين هادرة، ولكنهم كانوا (فكرة) واحدة تتحرك نحو هدف واحد. حراك نحو الأمل. حراك نحو الذكريات. حراك نحو بيت رأوه في خيالهم فقط. حراك نحو أرض لم يروها، ولكنهم متأكدون من أنها موجودة.

وعند لحظة التماس، فوجئ الجميع بنسيم يهبّ عليهم من الأرض التي أمامهم. أرض فلسطين. وفوجىء الجميع بأنهم يشمّون نسيماً يعرفون رائحته من قبل. نسيم له أريج خاص، تنشقوه يوماً في شعر الأم وهم يعانقونها، وفي عباءة الأب وهم يرتدونها، وفعل النسيم فعله في نفوسهم كالسحر، فاندفعوا نحو فلسطين كأنهم محمولون على بساط من ريح. كان أمامهم حاجز لم يروه. وكان أمامهم حقل ألغام لم يروه. وكان أمامهم صهاينة مدججون بالسلاح لم يروهم. ولم يسمعوا حتى زخات الرصاص الذي انهمر عليهم.

كان ذلك هو الزحف نحو فلسطين. وشعر الصهاينة بالخوف كما لم يحدث معهم من قبل. وأصبح هذا الزحف بداية لحدث تاريخي، حدد وجهته وسيتكرر ويتكرر، وسيصبح بعد سنوات النسيم الذي يحمل رياح فلسطين. تماماً كلمات (حق العودة) من قبل.

قال الراوي إنه سمع من يتحدث لغة غير عربية. وإنه شعر بالخوف يهيمن على كل من يتحدث تلك اللغة، بينما كان الشباب الزاحفون يسيرون على بساط من ريح، نحو هدف واحد، هدف اسمه فلسطين. وأصبحت كلمة (الزحف) مفتاح صناعة التاريخ.