مجلة العودة

الجغرافيا والديموغرافيا في نكبة فلسطين

الجغرافيا والديموغرافيا في نكبة فلسطين

يوسف كامل إبراهيم/ غزة*

لم يكن الصراع مع العدو صراعاً عادياً، بل أخذ أبعاداً خطيرة تمثلت في الصراع على الأرض وانتزاعها من أصحابها الأصليين والسيطرة عليها بمختلف الوسائل والطرق. ومع بدايات ظهور هذا الصراع في أوائل سنوات القرن العشرين حيث استطاع اليهود الوصول إلى فلسطين ضمن التسهيلات التي أعطيت لهم من حكومة الانتداب البريطاني التي قدمت لهم المساعدات الكثيرة والمتنوعة من أجل الحصول والسيطرة على كثير من الأراضي الفلسطينية وتدريب اليهود على السلاح.


Description: http://alawda-mag.net/assets/issue9/p20-1.jpg

لم يستطع اليهود إعلان دولتهم إلا بعد أن اكتمل العدد الكافي من المهاجرين إلى فلسطين، ومن هنا بدأ الصراع يظهر على الأرض وأخذ في نهايته شكل الصراع الديموغرافي، فتمّ تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين ومنح الامتيازات والتسهيلات لهؤلاء المهاجرين. وهكذا بدا جوهر الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي صراعاً ديموغرافياً استهدف انتزاع الأرض وإفراغها من أهلها لصالح الوجود اليهودي. في الجانب الآخر تحدد الهدف بالمحافظة على الوجود الديموغرافي للشعب الفلسطيني بكلّ مقومات وجوده السياسية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.

من هنا، بدأت كافة أطراف الصراع بتبني الخطط والبرامج والسياسات الاقتصادية منها والاجتماعية لتحقيق الأهداف التي يسعى الكل لها، فالطرف الإسرائيلي يسعى إلى حسم المعركة الديموغرافية لصالحه عن طريق تشجيع الهجرة إلى فلسطين، وعن طريق تشجيع الأُسر بزيادة عدد أفرادها، وذلك بتقديم كثير من المساعدات والهبات والمنح لهذه الأسر. وفي الطرف الفلسطيني ظهرت المقاومة المسلحة لوقف زحف واستيلاء اليهود على الأراضي الفلسطينية، ونشر الوعي الاجتماعي والثقافي بين أفراد الشعب الفلسطيني وحثّهم على المقاومة والصمود في وجه الطغيان الصهيوني للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، فعندما صدر وعد بلفور عام 1917 وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني من عام 1918 حتى عام 1948 وتم تقديم التسهيلات اللازمة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وبدأ اليهودُ التدفقَ بالآلاف وارتفع عددهم من حوالى عشرة آلاف شخص في منتصف القرن التاسع عشر إلى ما يقرب من 62,500 شخص عند بداية الانتداب البريطاني، وإلى ما يقرب من 650 ألف شخص عند نهاية الانتداب المذكور عام 1948، وبذلك ارتفعت نسبة اليهود إلى مجموع عدد السكان في فلسطين من 8.3% عام 1919 إلى 31.5% في 15 أيار عام 1948.

أول تقدير لعدد سكان فلسطين في القرن العشرين كان في فترة الحكم العثماني في عام 1914 (السنة التي نشبت فيها الحرب العالمية الأولى) وأفاد بأن عدد سكان فلسطين هو 689,275 نسمة منهم 8% من اليهود. وبعد خضوع فلسطين للانتداب البريطاني أصبح عدد سكان فلسطين حسب التقدير الرسمي 673 ألفاً، منهم 521 ألفاً من المسلمين و67 ألفاً من اليهود و78 ألفاً من المسيحيين و7 آلاف من المذاهب الأخرى.

وقد نجم عن نكبة فلسطين وإعلان قيام الكيان الصهيوني تشريد القسم الأكبر من السكان الأصليين العرب، حيث تركوا منازلهم رغبة في النجاة بأرواحهم نتيجة الوحشية التي اتبعها العدو الصهيوني في احتلاله للقرى الفلسطينية، وقد نجم عن هذه النكبة تقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق جغرافية:

-الأراضي المحتلة عام 1948، وقد شغلت 7.67% من مساحة فلسطين.
-
الضفة الغربية وتشغل 22% من مساحة فلسطين.
-
قطاع غزة ويشغل 1.3% من مساحة فلسطين.

ولم يكتفِ العدو الصهيوني باقتصار رقعة دولته على أراضي 1948، بل اعتدى على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967 واحتلها، وبذلك أصبحت فلسطين جميعها تحت السيطرة اليهودية. وعلى أثر هذا العدوان الجديد نزح العديد من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وانخفض عدد السكان في الضفة الغربية إلى 581,700 نسمة، كما انخفض عدد السكان في قطاع غزة إلى 937,600 نسمة، بينما كان عددهم قبل عام 1967 مباشرة في حدود مليون وأربعين ألف نسمة.

وتشير جميع الدلائل والمؤشرات إلى أن العدو الصهيوني يسعى جاهداً في مضايقة الشعب الفلسطيني وإجباره على الرحيل من أراضيه، وذلك رغبة منه وطمعاً في أرض بلا سكان، واستمراراً لنظرية الصراع الديموغرافي على أرض فلسطين، حيث يتضح ذلك من خلال الممارسات اليومية للاحتلال.

وللوقوف على صورة المتغيرات الديموغرافية ومدى أثر الهجرة عليها، نرى أن المجموع الكلي لعدد السكان في فلسطين عام 1986 كان 5.6 ملايين نسمة، منهم 3.5 ملايين نسمة من اليهود؛ أي ما نسبته حوالى 63% من المجموع الكلي، والباقي من الفلسطينيين؛ أي ما نسبته 37% من المجموع الكلي، يقيم منهم في الضفة الغربية وقطاع غزة حوالى 26% من المجموع، بينما كانت نسبتهم 32% قبل نكسة حزيران عام 1967 وفي حدود 53% بعد نكبة 1948 مباشرة.

ومع حلول عام 1998 بلغ المجموع الكلي لعدد السكان في فلسطين 8.09 ملايين نسمة منهم 5.50 ملايين نسمة من اليهود، أي ما نسبته حوالى 67.9% والباقي من الفلسطينيين، أي ما نسبته 32.1% من المجموع الكلي، يقيم منهم في الضفة الغربية 1,596,442 نسمة في قطاع غزة 1,000,175 مليون نسمة في قطاع غزة.

وخلال الأعوم الأحد عشر الماضية استطاعت «إسرائيل» المحافظة على الميزان الديموغرافي لصالحها على الرغم من ارتفاع نسبة النمو السكاني في الجانب الفلسطيني، ويرجع ذلك إلى موجات الهجرة في هذه السنوات وخاصة بعد انتهاء المنظومة الاشتراكية وتفكيك الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي استغله اليهود في ترحيل أعداد كبيرة منهم إلى فلسطين المحتلة.

مما سبق يتضح أن سلطات العدو ماضية في تنفيذ مخطط المحافظة على الميزان الديموغرافي لصالحها، الأمر الذي يستدعي منها القيام بتنفيذ مخططها الهادف إلى ابتلاع الأرض وتشريد الأهل من فلسطين وحصرهم في بقع وكانتونات جغرافية غير مترابطة وغير متماسكة، لتسهل السيطرة عليهم، الأمر الذي ينذر وينبئ بحدوث انفجار سكاني.

منتشرون في أرجاء العالم

لم يبتعد المهجرون الفلسطينيون عن أرضهم كثيراً، فقد عمدوا إلى البقاء أقرب ما يمكن إلى قراهم ومدنهم الأصلية، أملاً منهم في العودة القريبة إليها. لجأ الكثير منهم إلى المنطقة الجنوبية من فلسطين التاريخية في عام 1948 إلى قضاء غزة وقضاء بئر السبع جنوباً ومناطق فلسطين الوسطى (حوالى 65% منهم أقاموا في فلسطين في المنطقة غير الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، التي أصبحت تسمى الضفة الغربية وقطاع غزة، اللتين تشكلان معاً حوالى 22% من مساحة فلسطين التاريخية)، لذلك قفز عدد السكان في مناطق الضفة الغربية من 460 ألفاً إلى 740 ألفاً خلال هذه الفترة بسبب المهجرين من قراهم في ذلك الوقت.

ولجأ بقية اللاجئين (نحو 35%) إلى الدول العربية المجاورة، وهي: مصر والأردن وسوريا ولبنان، بالإضافة إلى عدد غير معروف من السكان الفلسطينيين الذين كانوا خارج فلسطين في عام 1948، (كالعمال والطلبة والتجار والسياح)، والذين لم يتمكنوا من العودة إلى قراهم ومدنهم بعد النكبة.

ويتوزع اليوم اللاجئون الفلسطينيون على معظم مناطق العالم، وبالرغم من اختلاف التوزيع الجغرافي للاجئين خلال ستة عقود الماضية، إلا أن غالبيتهم ما زالت تبعد أقل من 100 كم عن قراهم ومدنهم الأصلية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عامي 1948 و1967.

وبالرغم من الاختلافات الحاصلة بالنسبة إلى التوزيع الجغرافي للاجئين الفلسطينيين، إلا أن نسبتهم في الدول المضيفة الرئيسة لا تزال مشابهة قياساً لمجمل عدد السكان في هذه الدول (نحو 6%) كما كانت عليه في عام 1948.

في لبنان يبلغ عدد اللاجئين نحو 450 ألفاً (حسب الإحصاءات الرسمية، غير أن كثرة التهجير أدى إلى انخفاضه عملياً إلى أقل من 250 ألفاً)، ويقاسون كثيراً لأسباب اقتصادية وسياسية، ونظراً لتركيبة لبنان الطائفية والحرب بين الطوائف بعضها ببعض وبينها وبين الفلسطينيين. أما من الناحية الاقتصادية، فقد وصل وضعهم إلى الحضيض أيضاً بسبب خروج المنظمة التي كانت تنفق الأموال على الخدمات الاجتماعية، وبسبب منع الحكومة اللبنانية الفلسطينيين من مزاولة 72 مهنة، وبسبب تخفيض خدمات وكالة الغوث التي أحجم المانحون الأوروبيون والأمريكيون عن تقديم الدعم الكافي لها، خدمة لأهداف أوسلو وللضغط على الفلسطينيين لقبول التنازل عن معظم حقوقهم.

وفي سوريا يتمتع اللاجئون 445 ألفاً بكل الحقوق المدنية التي يتمتع بها المواطن السوري عدا الحقوق السياسية كالترشّح والانتخاب.

في الضفة وغزة عاش اللاجئون (2.7 مليون لاجئ) ومعهم فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الصهيوني منذ عام 1967، وعندما أنشئت السلطة الفلسطينية عام 1994 حصل انتعاش سياسي واقتصادي ضئيل، لكنه ما لبث أن انتكس. وفي هذه الأيام يُعتبر اللاجئون من أكثر الشرائح الفلسطينية تضرراً من الحصار على الشعب الفلسطيني.

أما الفلسطينيون الذين يعيشون في البلاد العربية الأخرى؛ وخصوصاً في الخليج، فهم يعملون هناك بسبب كفاءتهم العالية وإخلاصهم في العمل وليس بموجب تسهيلات سياسية، بل على العكس، كانت الأوضاع السياسية ولا تزال أكبر عائق لوجودهم أو بقائهم أو شعورهم بالأمن والاستقرار. ففي حرب الخليج الثانية (غزو الكويت) طُردت أعداد كبيرة من دول الخليج، ومُنعت عودة 350 ألف فلسطيني كانوا في الكويت وخرجوا في أثناء احتلالها، ولا يزال دخولهم إلى دول الخليج مقيداً ومحدداً جداً.

وتوجد الآن جاليات كبيرة في معظم الدول الأوروبية تتراوح بين خمسة آلاف في فرنسا إلى 15 ألفاً في اسكندنافيا إلى 30 ألفاً في ألمانيا. وتوجد جالية عربية في إنجلترا لا تقل عن 250 ألف نسمة، يشكل الفلسطينيون جزءاً مهماً منها.

وفي أميركا الشمالية توجد جالية فلسطينية تتجاوز 150 ألفاً. وفي أميركا الجنوبية أكثر من ذلك، خصوصاً تشيلي التي تعيش فيها أكبر جالية فلسطينية في العالم عدا دول الطوق، ولكن ليست كلها من اللاجئين، بل معظمهم من المهاجرين القدامى.

متمسكون بالعودة

رغم تشتيت الشعب الفلسطيني وتوزيعه في أنحاء المعمورة، فإنه في ظل ذكرى النكبة الستين، لا يمكّن أحداً أن يتجاوز حقوقه المشروعة، فإذا كانت النكبة قد شرّدته من قراه ومدنه، فإنه يبدو أكثر تمسكاً بالعودة إليها وإصراراً على المقاومة، فالمعاناة الطويلة والإرهاب والبطش والمجازر الصهيونية لم تثنِهِ قيد أنملة عن الثبات على مقاومته للمحتل وعودته الحرة والكريمة والكاملة.

*أستاذ محاضر في جامعة الأقصى - فلسطين