مجلة العودة

تحليل: «الدولة اليهودية».. ورواية صهيونية للتاريخ في مدارس السلطة - نافذ أبو حسنة

«الدولة اليهودية».. ورواية صهيونية للتاريخ في مدارس السلطة
 

نافذ أبو حسنة/ بيروت

اختار ياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أن يمزج بين «خفة الدم» والموقف السياسي، في ردّه على المطلب الصهيوني بالاعتراف الفلسطيني بكيان الاحتلال، دولة يهودية. فقد قال عبد ربه: «لا يوجد لدينا مانع من الاعتراف بإسرائيل بالشكل الذي تراه مناسباً، إن كانت يهودية أو صينية». واشترط عبد ربه لذلك انسحاباً إسرائيلياً، وأن تقدم أميركا و«إسرائيل» اعترافاً بدولة فلسطينية في حدود عام 1967.

تصريح أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى صحيفة هآرتس، جرى نفيه ثم أكده «المكتب الصحفي الفلسطيني»، ناشراً نصَّه الكامل. لكن لم تنفِهِ أو تعلق عليه مصادر السلطة، كان خبر آخر في هآرتس، ينطوي على خطورة شديدة، ويمثل تطوراً لافتاً هو الأول من نوعه. قالت الصحيفة المذكورة «إن وزارة التربية والتعليم في السلطة الفلسطينية، وافقت على تدريس كتاب في مدارس الضفة الغربية، يتضمن الروايتين الفلسطينية والإسرائيلية للصراع».

الكتاب هو بعنوان «تعلم الرواية التاريخية للآخر»، وصدر حسب الصحيفة بتعاون مشترك «فلسطيني إسرائيلي سويدي لتعزيز التعايش من خلال التعليم، ضمن مشروع بدأه دان بار أون من جامعة بن غوريون وسامي عدوان من جامعة بيت لحم، وسيبدأ تدريسه في مدرستين ثانويتين قرب أريحا».

الصحيفة التي لم تخفِ «تقديراً» لقرار المسؤولين في السلطة، الذين قرأوا الكتاب قبل الموافقة على تدريسه «أشارت إلى أن وزارة التربية والتعليم في دولة الاحتلال، سوف تستدعي للتحقيق، مدير مدرسة ثانوية في مستوطنة سديروت، سمح باستخدام الكتاب من قبل طلابه في دورة خاصة».

كما سلفت الإشارة، فإن مصادر السلطة الفلسطينية لم تعلق على هذا الخبر. وليس لهذا الأمر كبير أهمية، إذ لطالما نفت السلطة أخباراً نشرتها الصحف الصهيونية، ثم جاءت الوقائع لتنفي النفي. كذلك فإنه ليس هناك ما يقدم معطيات للتعامل مع هذا الخبر على أنه نوع من الدس أو التلفيق. فالسلطة بلغت مطارح ما كانت متوقعة، وبدت أقرب إلى الخيال في كثير من الأحيان.

اختراع الشعب واختراع الرواية

منذ وقت ليس ببعيد، علقنا في صفحات «العـودة»، على تصريحات سلام فياض يتحدث فيها عن التاريخ المعقد للصراع، وتعدد رواياته، وهو قرر أن يريح نفسه من التاريخ ليتفرغ للمستقبل، ويبني الدولة الفلسطينية.

ويبدو اليوم، أن التعقيد بالنسبة إلى فياض، يتصل بالرواية الفلسطينية لهذا الصراع، فها هو يقبل بتدريس الرواية الصهيونية، التي قد تكون من وجهة نظره، أقل تعقيداً وأيسر على الفهم!! والحقيقة أن الأمر على درجة من الخطورة الشديدة. وهو لا يحتمل مجرد إشارة إلى المستوى الذي بلغته السلطة من الاستهانة بحاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله وتاريخه.

من بين أهداف عديدة يرمي إليها الإصرار الصهيوني على اعتراف فلسطيني أساساً بـ«إسرائيل» دولةً يهودية، يبرز هدف إكمال عملية تزييف تاريخي ضخمة، تؤدي إلى الإقرار بالرواية الصهيونية لمجرى الصراع من بدايته حتى اللحظة. وإذا كان هذا الأمر قد مثل هدفاً قديماً وصعباً في الآن ذاته، فإن قرار السلطة مهما كان شكل القول فيه، إنما يمثل اختراقاً صهيونياً ضخماً، يتسق مع الدور الذي تؤديه السلطة في رام الله الآن، بصرف النظر عن الترويج المقيت «لصمودها التفاوضي»، ونجاحها في تظهير معركة الاستيطان الذي لم يتوقف، بوصفها «أم المعارك» البطولية لفياض وعباس.

ومن المفارقات اللافتة، أن قرار السلطة التعليمي، جاء متزامناً مع صدور كتاب جديد للمؤرخ اليهودي شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، بعنوان «اختراع الشعب اليهودي».

الكتاب ليس جديداً في موضوعه، فقد سبق إلى مناقشة هذا الأمر المؤرخ كيث وايتلام، لكن من اطلعوا على كتاب ساند عدّوه «من أكثر الدراسات المثيرة، إن لم يكن الأكثر إثارة في تاريخ اليهود».

ينتهي ساند إلى ما انتهى إليه وايتلام إلى حد كبير، مشيراً إلى «أن وصف اليهود كشعب مشرد ومعزول من المنفيين الذين عاشوا في تنقل وترحال على امتداد الأيام والقارات، ووصلوا إلى وطنهم الذي شُرّدوا منه، ما هو إلا خرافة قومية فاقعة».

ويرى ساند أنه «في مرحلة معينة من القرن التاسع عشر أخذ مثقفون من أصل يهودي في ألمانيا على عاتقهم مهمة اختراع شعب بأثر رجعي، وذلك من منطلق رغبتهم الجامحة في اختلاق قومية يهودية عصرية. ومنذ المؤرخ هاينريخ غيرتس، شرع كُتّاب ومثقفون يهود بإعادة كتابة تاريخ اليهود كتاريخ شعب تحول إلى شعب مشرد، وانعطف في نهاية المطاف ليعود إلى وطنه».

هذا الكتاب ومثله كتاب وايتلام، يختلف كثيراً عن كتابات المؤرخين الصهاينة الجدد، التي ظهرت منذ أعوام، وصحّ عليها الوصف بأنها نوع من محاولة «تطهير الضمائر» وبدا فيها أن على الضحية، القيام بالشكر لقاتل قرر أن يقول إنه قام بالقتل حقاً. وهو بذلك يرضي «ضميره» ويترك للضحايا فرصة الانطواء على آلامهم. ففي واحد من تلك الاعترافات الشهيرة، التي تخص مجزرة الطنطورة، أخبرنا «المؤرخ الجديد» أن الجنود الذين اقترفوا المجزرة البشعة «كانوا ضجرين»، وربما كان على مائتي فلسطيني، أن يقدموا أجسادهم لتسلية الجنود من لواء اسكندروني، حتى يشعر هؤلاء بالراحة. ويتخلصوا من الإحساس بالضجر.

واقع الحال أن مثقفي السلطة الذين أقرّوا تدريس الرواية الصهيونية، لم يلتفتوا إلى كتاب ساند، والكتب المشابهة، ولا حتى إلى ما كتبه المؤرخون الجدد. فالحديث يتناول الرواية الصهيونية للصراع. وفيها أن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، وفيها أن شهداء مجزرة دير ياسين قاموا بعملية انتحار جماعي، وفيها أن الفلاحين الفلسطينيين أصحاب الأرض في القرى الفلسطينية هم من جاء باليهود من روسيا ثم هاجموهم على أرض فلسطين.

بكلمات أخرى، فإن هذا القرار يعني الشروع في تسويق الكذبة الصهيونية التي ينقضها اليهود أنفسهم بين أبناء الشعب الفلسطيني، بغية خلق «الفلسطيني الجديد» الذي يريده فياض، ليس متخلصاً من عبء التاريخ وحسب، بل متبنياً للكذبة الصهيونية، ويعيش في قلبها.

ثمة رواية محفورة على أجسادنا. ثمة رواية عن اقتلاعنا من بيوتنا، عن تشريدنا. عن مئات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، عن البطون المبقورة، عن الأطفال المزقي الأجساد. ونحن نعرف بالبداهة أن هذه الأرض لنا. وما يحاوله فياض هو أن يدمر البديهيات.

ودولة يهودية أيضاً

ومثله يفعل ياسر عبد ربه، فالتصريح الذي حاول أن يسوقه مثل مزحة سمجة، كشف بالتبني الأميركي له، عن مسلك جديد دخلت السلطة في دهاليزه. والمستور منه أكثر مما هو ظاهر.

بالمناسبة ليت أحداً يتطوع ليخبرنا عما يمثله عبد ربه، من قطاعات الشعب الفلسطيني. دخل المذكور إلى اللجنة التنفيذية منذ سنوات طويلة ممثلاً للجبهة الديموقراطية في اللجنة. ثم انشق عن الجبهة وأسس حزباً باسم «فـدا»، مثله في اللجنة التنفيذية. ثم استقال من الحزب أو طرد منه (الروايات متعددة هنا) لكنه بقي عضواً في اللجنة التنفيذية، وأمين سرّها أيضاً. كيف؟ لا أحد يتطوع للإجابة. لكن الدور الذي يؤديه قد (نقول قد) يقدم تفسيراً ما.

يتحدث عبد ربه عن اعتراف فلسطيني بدولة يهودية، مقابل تحديد هذه الدولة المطلوب الاعتراف بها، حتى إذا حصل ذلك قالت السلطة إنها أنجزت تقييداً لدولة الاحتلال التي لم تضع حدودها بعد. ولكن بصرف النظر عن هذا الهدف المستبطن في كلام عبد ربه، تحدث الأميركيون عما وصفوه باقتراح بنّاء، يفتح مجالاً للنقاش. بمعنى أنه مقابل الاعتراف الفلسطيني بـ«إسرائيل» دولةً يهودية، تقوم دولة الاحتلال بتعيين حدودها. ثم تبدأ اللعبة نزولاً من هذا السقف الجديد الذي صاغه أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة.

وعلى جاري العادة في سقوف عبد ربه وزملائه، فإن السقف مصمم بطريقة خاصة، بحيث يسجل هبوطاً مستمراً. وفي الأصل فإن «معركة المفاوضات» بحسب الوصف المحبب للفرسان التفاوضيين، تجري على أقل من 22% من مساحة فلسطين، وليس هناك أي إشكال في خسارة بعض الأعداد من النسبة المئوية تلك، على نحو يضمن الأمن الذي يطالب به الاحتلال، في الأغوار والقدس، وعبر ألسنة استيطانية في مناطق متفرقة من الضفة الغربية، وخصوصاً وهو شرع في نشاط استيطاني جديد ومكثف، ويتحدث عن مصادرة مليون متر مربع قرب نابلس، لإقامة قاعدة عسكرية لجيش الاحتلال. وبذا يصبح كلام عبد ربه، مدخلاً للخطوات اللاحقة. الثمن الذي يعرضه الصهاينة الآن هو: اعتراف فلسطيني بيهودية الدولة مقابل تجميد الاستيطان. وما تطلبه السلطة وفق عبد ربه تحديد حدود الدولة اليهودية المعترف بها. وجود عرضين أو تصورين يعني أن هناك إمكانية للبدء في التفاوض بحسب الأميركيين. وهذا ما سيحدث بعد وقت قصير. وفي النتيجة سوف يأخذ الصهاينة الاعتراف الذي يطلبونه، ولن تأخذ السلطة حتى تجميداً وهمياً أو فعلياً للاستيطان. هذا ما يمكن استخلاصه بالتجربة. وهذا أيضاً ما يشي به سلوك السلطة، سواء تجاه المقاومين الذين يجري اعتقالهم، أو الإرشاد لأماكن سكناهم، كما حدث في الخليل، كي تقوم قوات الاحتلال باعتقالهم أو قتلهم، أو تجاه الجيل الجديد الذي ستقدم له السلطة قراءة صهيونية للتاريخ ومجرى الصراع.

هذا السلوك في جميع اتجاهاته، لن يقدم نتيجة أفضل، أما الكلام على الصمود التفاوضي والمعركة التفاوضية والتلطي وراء السعي للمصالحة الوطنية، فكل ذلك من التفاصيل التي لا يمكن أن تحجب الحقائق.

عبد ربه يعي تماماً ما يقوله، ويستمر في دوره المعروف كدورية استطلاع سياسي متقدمة. وسلام فياض يعي تماماً ما يقوم به في خلق الفلسطيني الجديد، المنتمي إلى سياسات البنك الدولي وتطبيقاتها.

كفى.. حقاً كفى. ♦