مجلة العودة

النكبة في الدراما الفلسطينية... مولود في طور النمو منذ عقود

النكبة في الدراما الفلسطينية... مولود في طور النمو منذ عقود
 
 
العودة - الضفة الغربية

إنها أرض الدراما حقاً... وقائعها بدأت منذ أن وطئت أقدام اللصوص ترابها، وبدأوا يعربدون فيها قتلاً وحرقا وسرقة، لتنتهي بنكبة شعب، كانت كفيلة بأن ترسخ وتؤرخ بأدق تفاصيلها، ليس عبر الكتب والكلمات فقط، بل بالصوت والصورة، بالدراما الواقعية البعيدة عن خيال الكتاب والمخرجين، فأحداثها تخبّئ تفاصيل ربما هي أكبر من أن يصورها خيال هؤلاء!ولما للدراما من وقع على النفوس، كان حتماً على أهل فلسطين السليبة أن يسعوا إلى إظهار معاناتهم ونكبتهم من خلال أدوات العصر الحديث، ولا سيما الأعمال الدرامية، حيث تشير المعلومات إلى أن الدراما الفلسطينية لم تتأخر كثيراً عن مثيلتيها المصرية والسورية. فإن كانت الاولى قد بدأت عام 1927م، والثانية عام 1928، فقد أعلنت ولادة الدراما الفلسطينية عام 1935م. لكن ما مرّ به الشعب الفلسطيني في تلك السنوات كان كفيلاً بأن يؤخّر نموّ هذا المولود لسنوات طويلة.
وفي هذا المضمار، يرى الناقد السينمائي الفلسطيني بشار إبراهيم، المقيم في دبي، أن النكبة عصفت بكيان الشعب الفلسطيني، وزلزلت حياته؛ إذ قوّضت بنيانه الاجتماعي والاقتصادي، وطوّحت به إلى المنافي أو الخضوع لقهر الاحتلال.
وأضاف في حديث خاص مع "العودة": "كان من الطبيعي أن تتراجع أشكال التعبير الإبداعي والفني كافة سنوات عدّة، قبل أن تعاود أشكال التعبير الإبداعي الفردي، سواء الأدبي منها (شعر، قصة، رواية)، أو الفني (موسيقى، غناء، رسم)، للظهور مجدداً، مُلملةً جراحها، عازمةً على أخذ دورها في دفع الشعب الفلسطيني إلى النهوض مجدداً، والسير على طريق استعادة حقوقه بالعودة إلى أرضه السليبة، ووطنه المحتل".
وأكد أنه "كان من الطبيعي لأنماط التعبير الدرامي (مسرح، سينما، تلفزيون)، أن تتأخّر في الظهور؛ إذ إنها جميعها تنتمي إلى نسق الأعمال الإبداعية الجماعية التي تحتاج إلى مستلزمات بشرية ومادية وتقنية، ومناخات لا بد منها لتتحقق. لذلك، لم يعرف الفلسطينيون ظهورات واضحة للأعمال الدرامية في المسرح والسينما حتى بروز «سينما الثورة الفلسطينية»، عام 1968، و«المسرح الوطني الفلسطيني»، على يد منظمة التحرير الفلسطينية، فيما ستظهر أولى بوادر العمل الدرامي التلفزيوني حتى نهاية السبعينيات".

نجاحات وإخفاقات

وأضاف: "الكثير من الأعمال الدرامية الفلسطينية حاولت مقاربة موضوعات «النكبة» و«حق العودة»، فحقق البعض منها نجاحات هنا وهناك.. أصاب منها، وأخفق.. إلا أننا لم نقع حتى الآن على طراز الأعمال الدرامية الملحمية التي تنتشر بين الناس، وتقرّ في أذهانهم، وتؤثر في أفكارهم ومشاعرهم، على الأقل كما فعل العمل الدرامي السوري الكبير «التغريبة الفلسطينية»، بتوقيع المخرج السوري حاتم علي".
وعن أهمية الدراما ودورها في إبراز حكاية النكبة، أشار الناقد السينمائي بشار إبراهيم، إلى أنه ليس سوى الدراما قادر على أن يفعل ذلك، وقال: "الدراما الفلسطينية، في المسرح والسينما والتلفزيون، حاولت بأشكال مختلفة، لكنها في كل حال، لم تحقّق إلا القليل. ثمة عالم غني انطوى على وقع مطرقة «النكبة»، وسندان «الشتات»، وثمة شخصيات مذهلة من لحم ودم، كانت قد ومضت، بنت أحلامها، وعاشت آلامها. لم نر الكثير منها، ربما بسبب طغيان النزعة التحريضة التثويرية الدعائية، في البدايات، والانشغال بالمقاومة عن التأريخ، والراهن عن الماضي، والصاخب عن الهادئ".

أعمال راسخة

وعن جوانب القصور في الدراما الفلسطينية، أشار الناقد إلى كثرتها، وقال إنها تبدأ عند الجوانب الإنتاجية، ولا تنتهي عن الجوانب الفنية والتقنية، وطريقة التفكير بالموضوعات وتناولها، والانشغال بالخطاب السياسي، والعمل الثوري، ومجافاة الجوانب الإنسانية، خوف أن تتحوّل القضية الفلسطينية إلى مجرد ألم إنساني.
ولفت إلى أن الكثير من الأفلام السينمائية الفلسطينية اعتنت بالتصوير في مخيمات الشتات، منذ نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، من القرن العشرين، وقال: "سيبقى ما صوّره الراحل هاني جوهرية في مخيمات اللجوء في الأردن، ولبنان، وثائق تاريخية لا تضاهى. التعب والشقاء، والأمل والقهر، من جهة، والإصرار على العودة، من جهة أخرى. وستطول قائمة الأفلام التي جرى تصويرها في المخيمات، من فيلم «بعيداً عن الوطن» لقيس الزبيدي»، و«النهر البارد» لقاسم حول، و«عدوان صهيوني» لمصطفى أبو علي، وليس انتهاءً بأفلام رشيد مشهراوي؛ مثل «حتى إشعار آخر»، «حيفا»، وأفلامه الوثائقية العديدة".
وأضاف: "ربما مضى ذاك الزمن التحريضي الثوري في الأعمال الدرامية، وبات من اللازم عليها أن تميل إلى الهدوء والتأمل، وإعادة بناء اللحظات التاريخية التي مضت بأحداثها، لكنها جاثمة بآثارها ونتائجها حتى اليوم".

واقع أكبر من رواية

وبحكم ما يعانيه الشباب الفلسطيني، ولا سيما في مخيمات اللجوء التي كانت أبرز معالم النكبة، انصرف الكثير منهم لإنتاج أفلام وثائقية تظهر الوجه الحقيقي لحياتهم في البيوت التي تطورت عن مخيمات اللجوء.
ولا تقل أهمية الأعمال الوثائقية عن الدرامية في إيصال الرسالة والحقيقة للعالم في نظر الناقد السينمائي بشار إبراهيم، الذي قال إن "الواقع الفلسطيني أكبر من أي رواية، وأقوى من أي حكاية؛ فقد كان من الطبيعي أن يكون الميل إلى الأعمال الوثائقية هو الطاغي في الأعمال الدرامية الفلسطينية، مشيراً إلى أن الأفلام الوثائقية هي الأكثر والأوسع والأهم، سواء حققها مخرجون محترفون، أو هواة أو شباب، أو متخرجو الإعلام؛ فكل عمل وثائقي برأيه هو خطوة على طريقة ترسيخ صورة الفلسطيني وتثبيتها، وكل تلك الأعمال تفاصيل في اللوحة العامة التي ترسم صورة الفلسطيني، ومعاناته، وأحلامه، وحقّه الراسخ بالعودة إلى دياره، ونفض كارثة النكبة عن كاهليه".
وأضاف: "ليس من المغالاة في شيء القول إن الأعمال الوثائقية، التي صنعها الفلسطينيون بأنفسهم، أو صنعها عنهم عرب وأجانب، تمكنت من نقل الصورة الفلسطينية، ووضعت القضية الفلسطينية على طاولة الاهتمامات".
لكن بين كل تلك المحاولات، لا بد وأن تظهر لك بعض النيات الخبيثة التي يحاول صنّاعها دسّ السم في العسل، ومحاولة اقتناص الفرص لإنتاج بعض الأعمال التي تطرح فكرة التعايش مع من سلب الأرض ونكب الشعب، أو دسّ بعض المفاهيم والقيم التي تتعارض مع مفهوم المقاومة والثورة والتحرير، لتنتج في النهاية "دراما تطبيعية".
إلا أن الناقد السينمائي بشار إبراهيم، وجد أنّ من الصعب لديه القول بوجود «دراما تطبيعية»، لكن ثمة «أفكار تطبيعية» تمرّ في ثنايا بعض الأعمال، لكنها تعود، لوجود خلل أو خطأ، في طريقة النظرة إلى القضية الفلسطينية، وآفاق حلها، وثمة من يحاول إقناع نفسه (ومن ثم إقناعنا) بأن التعايش مع الاحتلال، يمكن أن يكون إحدى بوابات الحلّ! ثمة من قادته الخيبات المتتالية إلى الوقوع في وهدة الإحباط أو اليأس، أو البحث عن منفذ، ولو واهماً.
واشار قائلاً: "بالتأكيد، ثمة نبرات سياسية يمرّرها مخرج هنا أو هناك، في هذا العمل أو ذاك، وهي في النهاية تعبير عن نزعة سياسية محبطة، يائسة، أو نافرة، ثمة من لا يؤمن بالعنف، فيصنع فيلماً يدعو إلى الحل اللاعنفي، متخذاً من نماذج ومواقف فردية، وسيلة له. ثمة من يرى أن الفلسطينيين لا يريدون اليوم سوى العيش. يبقى السؤال: كيف يمكن أن تعيش تحت احتلال، ووراء جدار، وبين حواجز، وفوهات الجنود؟".
ومع كل هذا، يرى إبراهيم أن على منتجي الأفلام أو الدراما الفلسطينية التي تتحدث عن النكبة تسليط الضوء على الواقع؛ فالواقع الفلسطيني هو الدليل الأكبر، والأكثر فصاحة، ويكفي المخرج الفلسطيني أن يفتح عين كاميرته على الواقع الفلسطيني، وأكد: "التحوّل الأكبر حصل في تاريخ الإبداع الفلسطيني، عندما تمكّن أبناء المخيمات من التعبير عن ذواتهم. كما في الأدب، كذلك في الدراما".

أرض الدراما بلا دراما!

بدوره، أشار الناقد السينمائي الفلسطيني سعيد أبو معلا لعدم وجود دراما فلسطينية، وأن كل ما انتج عن القضية الفلسطينية وخاصة في ما يتعلق بالنكبة وحق العودة هو دراما عربية (رسمية خاصة أو إنتاج مشترك)، فالدراما الفلسطينية غير موجودة على صعيد المفهوم وعلى صعيد التجربة وكل ما أُنتج خلال سنوات ما بعد أوسلو في مناطق السلطة (الضفة وغزة) لا يرقى لنصفه بكونه محاولات.
واستشهد أبو معلا بملخص مؤتمر عن الدراما الفلسطينية عقد أخيراً في مدينة رام الله، كان أهم ما نتج منه أن أرض الدراما بلا دراما!
وأشار إلى أن "الدراما الفلسطينية على صعيد المسلسل أو التمثيلية التلفزيونية غير موجودة، لكن هناك إنتاج سينمائي النزر اليسير منه ممول ومنتج في فلسطين، حيث نعتقد أنه أدى دوراً بسيطاً جداً في توثيق النكبة الفلسطينية".
ولفت إلى أن أبرز ملامح القصور بما أنتج من أعمال درامية عربية عن النكبة هو الخطابية والبكائية العالية وعدم تقديم معالجات حقيقية تقدم معاناة إنسانية.
وفي ما يتعلق بالأعمال الوثائقية التي تتحدث عن معاناة اللاجئين وحكايات النكبة، قال: "هذه أعمال بسيطة ومتواضعة لا تعرض في محافل دولية وعالمية إلا ما ندر، وبالتالي هي تؤسس لبداية وعي سينمائي عند شباب يحترف العمل السينمائي بقضية النكبة واللاجئين، ونحن هنا نراهن على مستقبل هؤلاء الشباب، لا على منجزهم الحالي. لكن التحدي الأكبر هو بوجود شركات إنتاج عربية وفلسطينية تقدم تمويلاً لإنجاز أفلام سينمائية فلسطينية عن النكبة وهموم معاناة اللاجئين، بحيث تحتفظ برؤية وطنية فلسطينية خالصة".
وحول الأخطار التي تتعرض لها بعض الأعمال التلفزيونية أو السينمائية الفلسطينية، أشار الناقد السينمائي أبو معلا إلى وجود خطرين على الدراما التي تتحدث عن فلسطين: أولها التمويل الأجنبي لمشاريع الأفلام أو المسلسلات، والأخيرة قليل جداً، لكنها تختص بالتمويل العربي الذي يكون في أغلب الأحيان تمويلاً مشروطاً بالرؤية وطبيعة المعالجة والموقف من قضية اللاجئين نفسها وتفسيرها وتبني رؤية أن الأمر يستحق أن يطوى من دون تجريم طرف محتل. أما الخطر الثاني، فهو مشاريع التطبيع التي هي أصلاً مشاريع يفرضها الممول الأجنبي على مشاريع إنتاج أفلام تتعلق بالشأن الفلسطيني، ومن ضمنها موضوع النكبة".♦