مجلة العودة

ثقافة العودة على سطور قراءة النكبة

ثقافة العودة على سطور قراءة النكبة
د.عبد الله فرج الله

مرت على ذكرى النكبة أربعة وستون عاماً، بدأت آثارها تتضح في الحياة السياسية خصوصاً والثقافية عموماً، وفي الأشخاص المتقدمين في السن، والذين يقطنون في الدول المضيفة لهم إلى حين عودتهم إلى ديارهم وقراهم التي شُردوا منها قسراً بقوة السلاح على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني الغاشم عام 1948.أخذت تلك التطورات في بداية النكبة منحىً سياسياً يتعلق بآليات مقاومة الاحتلال الصهيوني وتدمير قوته العسكرية ومشروعه الاستعماري، ثم ما لبثت أن عبّرت عن حقيقة أنها لم تكن مجرد إجراءات وتطورات في تقنيات عسكرية لتوسيع احتلال الأراضي والمدن، بل إنها في العمق احتلال ثقافي حضاري لا يخلو من عناصر تتعلق بالواقع السياسي والاجتماعي والوجودي في فلسطين ما بعد الاستعمار البريطاني. ويرى الكثير من المراقبين والمتتبعين، والعديد من المختصين بالشؤون السياسية العربية والفلسطينية، أن الكيان الصهيوني يعاني منذ اغتصابه لفلسطين عام 1948 حتى وقتنا هذا، عدم سيطرته على الأرض، ولم يزل في حالة استنفار دائمة يومياً نتيجة لحالات الفعل الفلسطينية من خلال العمليات العسكرية والانتفاضات الشعبية والاعتصامات والإضرابات والمسيرات والتظاهرات التي تقارع الاحتلال بكل السبل وبكل أشكال المقاومة، بما فيها الثقافية، ما أدى إلى نشوء قوى ثقافية شمولية تفضح وتدين مباشرة التضليل والتحريف والتصنيع المزيف والمصطنع في عمليات النشر من قبل مؤسسات الإعلام والصحف لدى الكيان الصهيوني. وهذه الثقافة أصبحت قوى بارزة لها مراكزها ومؤسساتها الثقافية والإعلامية، وهناك العديد من الدراسات المهمة من خلال العمليات الإنتاجية الثقافية التي لها دورها المهم والفاعل على القضية الفلسطينية عموماً، واللاجئين خصوصاً، وهي عالية الذائقة الفكرية والفائدة والكفاءة والنتيجة، وقد استطاعت هذه الحالة من خلال أدباء ومفكرين وباحثين ومثقفين فلسطينيين وعرب أن يضعوا مشاريع وخططاً تليق وتتعلق بقضايا اللاجئين وحق العودة، برؤية ثقافية وسياسية تسعى في رفض وإحباط وإفشال كل المشاريع المشبوهة التي تحاك أو تسعى إلى إسقاط حق العودة. ورأينا في الآونة الأخيرة أن هذه القوى الثقافية استطاعت أن تتحول إلى حالة نوعية، والذي ظهر وطرأ على جيل الشباب الفلسطيني، أي جيل العودة في تمسكه بالعودة، ومسيرة يوم الأرض ومسيرة العودة خير دليل على صحة ذلك، وهذا أدى إلى تغيرات ملموسة في إعادة التفكير في علاقة الدول مع الكيان الصهيوني الغاشم. وأول تلك التطورات التي فرضتها هذه الدول ووصف هذا الكيان بالعنصرية والإرهاب الذي يمارسه على الشعب الفلسطيني الأعزل، حدث بعد أن سطّر هذا الشعب الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة، أكبر ملامح الصمود والتضحية والفداء، على مرأى العالم أجمع ومشاهده، ما أدى إلى تأييد العالم لحقوق الشعب الفلسطيني في مقاومته وفك الحصار عن قطاع غزة.


أمل بلا يأس


إن محاولات اللاجئين في مسيرات العودة ونشاطاتهم الثقافية والتراثية التقليدية شكلت العمود الفقري لثقافة العودة عبر أربعة وستين عاماً مرت على ولادة النكبة. إلى ذلك، فإننا ـ ضمن هذا السياق ـ يمكن النظر إلى فعل حقبة من الزمن أنه وجود حالة وطنية ثقافية لا تخلو من قوة الإرادة والتصميم في إنجاز عملية التحرير والتعبير عن الذات والهوية والذاكرة الفردية والجماعية. ويمكن من يراجع ويقرأ تاريخ الذاكرة التوثيقية الشفوية أن يلاحظ بسهولة أن ثقافة العودة وخصوصية معرفتها الإبداعية، التي شكلت أحد التجليات الأكثر وضوحاً لثقافاتنا الوطنية الفلسطينية من الناحية المقدرية والمعرفية لنشأة المشروع الصهيوني وأفكاره العدوانية الغاصبة في فلسطين وفي المنطقة العربية، بدءاً بالجانب المؤثر الذي يزيد جدلاً واسعاً على الصعيد الثقافي وفي البلدان الأوروبية، والذي يتمحور الجدل حول البحث عن وسائل لحماية  حق العودة كمخزون وطني ثقافي تراثي حضاري، تتجلى أهميته في ذلك الانهيار المؤسساتي الذي سيحرم اللاجئين البدائل وسيحول عمل هذه المؤسسات إلى مؤسسات تسويق وتفريط بالذاكرة الوطنية، وخاصة الذاكرة الشفوية، وهذا بالطبع لا يتوافق مع الواقع الثقافي الوطني  عموماً. وتشير نتائج الإحصائيات والدراسات لواقع اللاجئين إلى أن اللاجئين الفلسطينيين أصبحوا اليوم أكثر تمسكاً من أي وقت مضى، نتيجة للتفريط بحقوقهم المادية والمعنوية والقانونية، التي كانت عبر التفافات وكواليس سياسية كما كانت الحال في الماضي، بل أصبحت الآن تمرّ عبر قنوات ثقافية وسياسية ترتدي أقنعة من أخطر الأقنعة، وتتجلى بمؤسسات توزيع ودور نشر وصحف ثقافية. وفي ظل هذه العوامل، لم يعد من المؤكد أبداً أن هذا اللاجئ يمتلك بالفعل حرية الاختيار بكلمة نعم أو لا. وفي مناسبات كثيرة تنبّه العديد من المثقفين إلى أن الحرية الفردية التي كانت في زمن مضى أحد أسس عملية التحرير لم تعد موجودة في اختيار العودة إلا في ما يتعلق بكون حق العودة مستهلكاً لسلعة في فضاء سياسي مفتوح، وفي هذا السوق الذي تسيطر عليه زمرة متنفذة احتكارية رجعية كبرى انتشرت كظاهرة جديدة تحاول خلق ما يشبه الإجماع على عناوين معينة أو تيارات فكرية وثقافية للترويج لمشاريع سياسية هزيلة ومهزومة في شطب حق العودة، تشكل قلقاً كبيراً على كل اللاجئين، حيث تجاوزت كونها مجرد أداة التفافية هدفها تسويق مشاريع تستهدف حق العودة كالتوطين أو التهجير أو التعويض أو حتى صنع الوطن البديل، وفي مقابل ذلك هناك أيضاً نشاط كبير وهائل تقوم به مؤسسات ومراكز بحوث ودراسات، وهناك لجان ونشطاء في شؤون اللاجئين وقضاياهم، وخاصة في عالم الثقافة، ثقافة العودة، وتخصص له إمكانات مادية كبيرة، ما ينتج منه إصدارات وكتب، وتخصص له برامج ودراسات وندوات وملفات في أكبر الصحف والمجلات العالمية والنشرات الإعلامية، ويملأ مواقع شبكة الإنترنت المتخصصة  بدراسات قضايا وشؤون اللاجئين وحق العودة. وهناك أيضاً حملات توعية مثيرة تكشف وتسهم في تحسين الحياة اليومية لاستحقاق اللاجئين ومطالبهم؛ ففي حين أن جميع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين تختلف عن مناخها الجغرافي والسياسي، وأكثرها يعاني سوء الخدمات والمعيشة الصعبة ونقصاً في الرعاية الصحية وتدنياً في المساواة الاجتماعية وحرية الرأي والتعبير والحياة السياسية والنشاطات التي تنطلق من أفكار اللاجئين أنفسهم في تأسيس حالة حراك جماعي من الأعمال الثقافية التي تهدف إلى توعية فكرية تصب في مصلحة التنمية الاجتماعية والتصنيفات الناتجة من المجتمع المدني المحلي، التي تذكر وتؤكد أن فكرة الإجماع على التمسك بحق العودة إلى الديار والمدن والقرى والممتلكات التي حصلت الهجرة منها قسراً عام 1948 م، حيث اغتصبت فلسطين، وباتت مأساة اللاجئين حين ذلك وليس العودة إلى أراضي السلطة ولبعض العائلات فقط، أي لم الشمل، ولا يمكن إخضاع هذا الحق لأي نوع من المعاير التنازلية أو أي نوع من التسوية المباشرة أو غير المباشرة. وإن إمكانية الإجماع التي وجدت في تاريخ ونضال الشعب الفلسطيني الحديث والمبتكر لم يعد ممكناً التنازل عنه أو إلغاؤه، ويبدو أن الواقع السياسي بما أنتجه من أزمات وكوارث في السنوات الأخيرة الماضية، وخاصة بعد توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم، قد أصبح في أيامنا موضوعاً ثقافياً بامتياز، ولم يعد حكراً على مؤسسة ولا على أحد جوانب الحياة اليومية.


بين الثقافة والسياسة


إن التشابك بين العملية السياسية والحالة الثقافية تقتضي من الجميع العمل على تأسيس مبادرة جديدة قادرة على  نشر الوعي تحت راية ثقافة العودة، بخطر آليات شطب أو إنهاء، ليس حق العودة فقط، بل جميع الحقوق الوطنية العليا للشعب العربي الفلسطيني، بما فيها حق العودة  والدولة المستقلة على كامل التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس.
لقد بدأ العالم خلال السنوات الأخيرة يستيقظ من خرافات حلم الدولة اليهودية، من هيكل سليمان وشعب الله المختار ومن تداعيات المحرقة النازية، بعد أن دفع الشعب الفلسطيني  أثماناً باهظة بالأرواح والأرض والممتلكات على مدار ما يقارب قرناً من الزمن، وها هي الأوساط الثقافية اليوم تنتبه إلى دورها في مواجهة مشاريع التطبيع والاحتكارات الفكرية  والتسلح في ثقافة المقاومة وفي حقيقة الممانعة التي من خلالها يمكن النظر إلى حراك شعبي ثقافي مهم في هذا السياق وفي جميع تجمعات الشعب الفلسطيني، حيث تحاول العديد من عمل المؤسسات وضمن الفاعليات من ذكرى النكبة، إطلاق حملات ومبادرات ونشاطات في أوساط اللاجئين لتكريس حق العودة من خلال قراءة سطور ثقافة العودة كسلاح فكري ثقافي  روحاني بين العودة والنكبة  ♦