مجلة العودة

وصية لاجئ... للشاعر هاشم الرفاعي

 وصية لاجئ... للشاعر هاشم الرفاعي

أحمد السيد - اسطنبول

هاشم الرفاعي شاعر مصري ولد عام 1935 في مصر، درس في معاهد تابعة للأزهر، ثم التحق بكلية العلوم وتوفي قبل أن يتخرج في عام 1959، وقيل إنه قتل على يد جمال عبد الناصر.وقصيدته هذه من روائع القصائد التي تبعث الحنين إلى الأرض والوطن، حتى لكأن من كتبها عانى الغربة طويلاً، حتى استطاع أن يجسدها بهذه الصورة.
والقصيدة جاءت على شكل رسالة تفيض بالعواطف من أب لاجئ يحدث ابنه عن الوطن والحنين إليه والمعاناة التي عاشها كل متغرب عن أرضه.
"وظمئت عمري ثم مت بلا شراب"، "كانت لنا دار وكان لنا وطن... بيدي دفنت أخاك فيه بلا كفن"
ويحاول الأب أن يحيي في ذاكرة طفله ذكريات طفولته التي أمضاها في أرض الوطن "تلك الربوع هناك قد عرفتك طفلاً... يجني السنا والزهر حين يجوب حقلا... هم أخرجوك فعد إلى ما أخرجوك.. فهناك أرض كان يزرعها أبوك".
وتتضمن القصيدة، بل تكرر فيها الوصية التي يحمّلها الأب لابنه قبل الموت:
"فإذا نفضت غبار قبري عن يدك... ومضيت تلتمس الطريق إلى غدك... فاذكر وصية والد تحت التراب... سلبوه آمال الكهولة والشباب"
لتبقى هذه الوصية صورة عن حلم العودة الذي نتوارثه جيلاً عن جيل، عن مفتاح الدار الذي يسلمه الوالد لأولاده ليواصلوا درب الكفاح كي يعودوا إلى وطن لم يستطع هو أن يعود إليه.
بل إن الوطن نفسه يئن ويطالب أبناءه بالعودة؛ فها هي القصيدة تسمعك أنين حيفا: "حيفا تئن أما سمعت أنين حيفا... وشممت عن بعد شذى الليمون صيفا... هي لا تريدك أن تعيش العمر ضيفا".
أنا يا بُنيَّ غدا سيطوينـي الغسـق
لم يبق من ظل الحياة سوى رمـق
وحطام قلب عاش مشبـوبَ القلـق
قد أشرق المصباح يومـاً واحتـرق
جفَّـت بـه آمالـه حتـى اختنـق
..
فإذا نفضت غبار قبري عـن يـدك
ومضيت تلتمس الطريق إلى غـدك
..
فاذكر وصية والد تحـت التـراب
سلبـوه آمـال الكهولـة والشبـاب
✽ ✽ ✽
مأساتنـا مأسـاة ناس أبريـاء
وحكاية يغلـي بأسطرهـا الشقـاء
حملت إلى الآفـاق رائحـة الدمـاء
وجريمتي كانت محاولة البقاء
أنا ما اعتديت ولا ادخرتك لاعتداء
..
لكـن لـثـأر نبـعـه دام هـنـا
بين الضلوع جعلتـه كـل المنـى
..
وصبغت أحلامي به فوق الهضـاب
وظمئت عمري ثم متّ بلا شـراب
✽ ✽ ✽
كانت لنـا دار وكـان لنـا وطـن
ألقت بـه أيـدي الخيانـة للمحـن
وبذلـت فـي إنقـاذه أغلـى ثمـن
بيدي دفنت أخـاك فيه بـلا كفـن
إلا الدماء ومـا ألـم بـي الوهـن
..
إن كنت يوماً قـد سكبـت الأدمعـا
فلأننـي حمِّلـت فقدهـمـا مـعـا
..
جرحان في جنبي ثكـل واغتـراب
ولد أُضِيع وبلـدة رهـن العـذاب
✽ ✽ ✽
تلك الربوع هناك قد عرفتك طفـلا
يجني السنا والزهر حين يجوب حقلا
فاضت عليك رياضها ماء وظـلا
واليوم قد دهمت لك الأحداث أهـلا
ومروجك الخضراء تحني الهام ذلا
..
هم أخرجوك فعد إلى من أخرجـوك
فهناك أرض كان يزرعهـا أبـوك
..
قد ذقت من أثمارها الشهـدَ المـذاب
فـإلامَ تتركهـا لألسنـة الحـراب
✽ ✽ ✽
حيفا تئن أما سمعـت أنيـن حيفـا
وشممت عن بعد شذى الليمون صيفا
تبكي إذا لمحت وراء الأفْـق طيفـا
سألته عن يوم الخلاص متى وكيفـا
هي لا تريدك أن تعيش العمر ضيفا
..
فوراءك الأرض التي غذت صباك
وتود يوماً فـي شبابـك أن تـراك
..
لم تنسها إيـاك أهـوال المصـاب
ترنو ولكن مـلء نظرتهـا عتـاب
✽ ✽ ✽
إن جئتها يوماً وفي يـدك السـلاح
وطلعت بين ربوعها مثل الصبـاح
فاهتف سلي سمع الروابي والبطـاح
أنِّي أنا الأمس الذي ضمَدَ الجـراح
لبيك يا وطني العزيـز المستبـاح
..
أولستَ تذكرنـي أنـا ذاك الغـلام
من أحرقوا مأواه في جنـح الظـلام
..
بلهيب نار حولها رقـص الذئـاب
لفَّت صبـاه بالدخـان وبالضبـاب
✽ ✽ ✽
سيحدثونك يـا بُنـيَّ عـن السـلام
إياك أن تصغي إلـى هـذا الكـلام
كالطفل يخدع بالمنـى حتـى ينـام
لا سِلمَ أو يجلو عن الوجه الرغـام
صدقتهـم يومـا فآوتنـي الخيـام
..
وغدا طعامي من نـوال المحسنيـن
يلقى إلي.. إلى الجيـاع اللاجئيـن
..
فسلامهـم مكـر وأمنهـمُ سـراب
نشر الدمار على بلادك والخـراب
✽ ✽ ✽
لا تبكينَّ فما بكـت عيـن الجنـاة
هي قصة الطغيان من فجر الحيـاة
فارجع إلى بلد كنوز أبـي حصـاه
قد كنت أرجو أن أموت على ثـراه
أمل ذوى ما كان لـي أمـل سـواه
..
فإذا نفضت غبار قبري عـن يـدك
ومضيت تلتمس الطريق إلى غـدك
..
فاذكر وصية والد تحـت التـراب
سلبـوه آمـال الكهولـة والشبـاب ♦