مجلة العودة

التشكيلية تمام الأكحل: سأبقى أرسم فلسطين لتبقى راسخة في الأذهان

 رسمت التهجير والمخيم.. واحتفظت بكوشان البيت ومفتاحه

التشكيلية تمام الأكحل: سأبقى أرسم فلسطين لتبقى راسخة في الأذهان

  تامر الصمادي/ عمّان

عند دخولك إلى منزلها تعود بك الذاكرة إلى أعوام النكبة الأولى، حيث تضع لوحات النكبة وصورها وعذاباتها، وأحلام العودة التي لم ولن تنال منها «مفاوضات الاستسلام» كما كانت تقول. منزل الفنانة التشكيلية تمام الأكحل وهي اللاجئة والمهجرة التي أُرغمت وأهلها على الخروج من ديارهم والتشتت والنزوح إلى عدد من الدول العربية.

«العودة» التقت في العاصمة عمان بالفنانة الأكحل التي جعلت من قضية النكبة وحلم العودة قصصاً راسخة تعبّر عن حرمان الفلسطيني، من خلال لوحاتها الفنية التي أسست لحقوق الشعب المهضومة.          

شاءت الأقدار أن تكون الأكحل رسّامة الجرح الفلسطيني، ليست فقط وحدها وإنما إلى جانب زوجها المرحوم إسماعيل شمّوط، وهو أحد أبرز رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، وأحد شخصياته الهامة الذي يراه البعض مؤسس حركة الفن التشكيلي الفلسطيني.

سفراء للجرح التشكيلي

 الأكحل وزوجها حملا جرح النكبة من خلال لوحاتهما الجمالية إلى دول العالم أجمع، شارحَيْن لكل الناس الظلم والقهر والجور الذي تعرض له الفلسطينيون، على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني وعصابات الهاغاناه.

عاشت هي وإسماعيل كما كانت تروي لـ«العودة»، حياة اللاجئ الفلسطيني الذي عاش في المنافي بعيداً عن الأرض التي عشقها وعشقته، وترسخ حبها في قلبه الأسير.

كانت الأكحل أول فنانة فلسطينية تقيم معرضاً شخصياً بعد عام النكبة، فقد شهدت القاهرة في عام 1954 معرضها الأول، وهي أول فنانة فلسطينية تتخرج من أكاديميات الفنون التشكيلية «خريجة كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1957»، وهي بلا مبالغة الرائدة الحقيقية للفن الفلسطيني المعاصر «كرّمت في الأسبوع التشكيلي العربي كرائدة من رواد الفن الفلسطيني»، وهي الفنانة التي ملكت استمرارية الإنجاز عبر مشاركتها في عشرات المعارض الجماعية الفلسطينية، وأقامتها في أكثر من ثلاثين معرضاً شخصياً في المدن العربية والأجنبية مثل «القاهرة والقدس وعمان ودمشق وبيروت والكويت والجزائر وصوفيا وبلغراد وبكين ولندن والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها..».

العدو يطارد الفن

 مهمتها كسفيرة الفن الفلسطيني إلى العالم لم تكن سهلة، ولم تكن مأمونة من جانب المافيات الصهيونية المتطرفة في دول العالم، وللتدليل على ذلك تقول: «أذكر أنني ذهبت أنا وزوجي إسماعيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية لعرض لوحاتنا في جامعة فيلادلفيا، حينها تجمهر اليهود أمام رئاسة الجامعة وطلبوا من الرئيس إيقاف المعرض الفلسطيني وعدم عرض اللوحات التي تؤكد حجم المعاناة والحرمان، قال لهم الرئيس.. سنوات طويلة ونحن نستمع إليكم، دعونا لمرة واحدة في الحياة نستمع للفلسطيني وإلى روايته.. وفي اليوم التالي افتتحنا المعرض لكن لم يأتِ أحد.. لنكتشف أن اليهود ارتدوا الزيّ العربي ووقفوا أمام الجامعة حاملين لوحات مكتوباً عليها: «المعرض تأجل إلى وقت غير معلوم»، وهو ما دفع الناس إلى الانصراف. أذكر أننا تشاجرنا معهم واشتبكنا في الأيدي، وفي اليوم التالي تنبهنا لمخططاتهم واستطعنا عرض لوحاتنا وصورنا.. التي نالت إعجاب الجميع.. وأشعرتهم بمعاناتنا المرة».

وتروي بعض مذكراتها قائلة: «كتب أحد النقاد الصهاينة وهو ألماني وفنان تشكيلي عن النكبة والطرد والتهجير الجماعي الذي تعرضنا له كشعب أعزل، قال.. جئت إلى فلسطين وقت إخراج الفلسطينيين من ديارهم، تم إخلاء السكان بالقوة في اللد والرملة حيث طردوا إلى الضفة الشرقية -المملكة الأردنية- في ما بعد، وعند الطرد الاجباري كان البعض يترك الطبيخ على نار البريموس، ومنهم من ترك فناجين القهوة فاترة لم تشرب بعد، وهناك بيت مميز في اللد دخلته، وإذا بي أرى لوحات فنية مرسومة على قماش قيِّم وألوانها لم تجف بعد، حتى فراشي الرسم كانت مغموسة بالألوان، هذه اللوحات تحمل رسوماً جميلة تدل على الحب والسلام والسخط على الحروب..»، مؤكدة أن اللوحات التي تحدث عنها الرجل كانت لزوجها شموط..

بعد تهجير طويل تمكنت الأكحل من العودة إلى فلسطين بعد أن أعطاها والدها مفتاح منزلهم الذي طردوا منه، لكن الصاعقة التي ضربتها عند عودتها للبيت الحجري القديم، هي اغتصاب إحدى اليهوديات لبيتهم الذي ضم فقرهم وجوعهم وأفراحهم وأحزانهم، والأدهى من ذلك أن مُغتصِبة البيت كانت فنانة تشكيلة، وقد حولت بيت الأكحل إلى معرض لرسوم تشكيلية تزعم «شرعية الصهاينة في اغتصابهم لفلسطين»!

رسمت الأكحل مغتصِبةَ بيتها بملابسها السوداء ووجهها الأزرق الكالح وهي تغير مفاتيح الباب وتسرق الحديقة والماء، وتغير في جداريات المنزل التي كانت تدل على الثقافة والتاريخ والهوية..

بعد ذلك ذهبت الأكحل في رحلة طويلة إلى دول العالم العربي والغربي، حاملة ريشتها وألوانها البريئة ولوحاتها المخضبة بدماء الشهداء والمحرومين، صادحة بصوت الفنان المقهور، وناقلة للعالم أجمع معاناة الجد الفلسطيني والأب الفلسطيني والأم الفلسطينية.

حلم العودة بريشتها

 حق العودة كما ترى الأكحل له الأولوية في حياة كل فرد فينا، وفي حياة كل جيل فلسطيني، فهي ستورث أولادها وأحفادها مفتاح البيت في فلسطين، قائلة: «الفنان التشكيلي الذي هجر من البلاد حمل وطنه بين أضلعه، وعليه من خلال رسوماته أن يبيّن للعالم آلام النكبة وأحلام اللاجئ بالعودة إلى فلسطين الحبيبة، أما الفنان التشكيلي داخل فلسطين فعليه أن يرسم السعادة والأفراح والمآسي التي يتعرض لها شعبنا من اعتداءات على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني..».

تضيف: «العودة بالنسبة لي تمثل الحلم الذي لن نتنازل عنه، يجب أن أرسم هذا الحلم لكل شعبنا الفلسطيني، حتى يبقى حيّاً في الذهن مهما طال الزمن، ويجب علي أن أرسم جمال فلسطين على الدوام.. أنا من يافا وسأبقى أرسمها 500 مرة بأشكالها المختلفة وجمالياتها المتنوّعة، حتى تبقى خالدة في الذهن ولا تسقط».

تمام تؤكد أنها تسجل بلادها وشعبها وأحلامها وطموحها في العودة من خلال لوحاتها الفنية، وهي مصرة على تثبيت حلم العودة رغم كل المعوقات، مشددة على أنها ما زالت تحتفظ بكوشان بيت أهلها في يافا والمفتاح الحديدي القديم..

أجمل شي في فلسطين حرمت منه، كما قالت لـ«العودة»، هي أيام نضوج شجر البرتقال، متذكرة كيف كان والدها يسقي ذاك الشجر، أما هي فكانت تجلس على شرفة البيت لاستنشاق الرائحة الجميلة للبرتقال اللذيذ. الأكحل أصرت على رسم جسدها وروحها الطاهرة وهي تطل من نافذة البيت لتنظر إلى ثمار البرتقال وتتنسم عبيرها.

ريشتها عرّت الاحتلال

 كما رسمت الأكحل طرد الشعب من البلاد، والتهجير القمعي الذي أُجبروا عليه، كاشفة جرائمهم التي ارتكبوها بحق الناس والأرض.

تقول: «الصهاينة كذبوا الدين والتاريخ وغيّروا جغرافيا الأرض، لكن هذا لا يعني أن بمقدورهم الاستمرار بأكاذيبهم إلى الأبد، أما لوحاتنا الفنية فهي ستبقى خالدة تحكي للعالم بأسره جرائمهم البشعة، نحن لم نحمل بارودة ولم نرسم فلسفة، نحن رسمنا اللحظات المؤلمة التي عشناها، رسمنا تجربتنا الشخصية، رسمنا شعبنا القابع تحت الاحتلال، ورسمنا أحلام الشعب وطموحه وأحلام العودة التي يتوق إليها..».

وتتابع: «رسمت أنا وزوجي التهجير والجوع في طريق النكبة، ورسمنا المرأة التي تمصّ القميص المبلل بالعرق نتيجة العطش وعدم وجود الماء، كما رسمنا شقيق زوجي الصغير الذي مات من العطش أثناء التهجير وعمره 9 سنوات..».

سيرة ذاتية

 تمام عارف الأكحل الفنانة الفلسطينية التي صوَّرت بإبداع ريشتها على مدى أكثر من خمسين عاماً تراث الشعب الفلسطيني وواقع معاناته، ولدت في مدينة يافا عام 1935، شردتها النكبة مع أهلها من يافا إلى بيروت 1948، ومنحتها كلية المقاصد في بيروت بعثة لدراسة الفن في المعهد العالي للفنون الجميلة بالقاهرة عام 1953.

حصلت على شهادة الفنون الجميلة وشهادة إجازة تدريس الفن من المعهد العالي لمعلمات الفنون بالقاهرة 1957.

يصعب الحديث عن تمام دون الحديث عن زوجها إسماعيل شمّوط والعكس صحيح أيضاً.

في عام 1983 - 1992 اضطرتهما الظروف لمغادرة لبنان والعيش في الكويت متفرغين للفن. أما في عام 1992 - 1994 فاضطرتهما الظروف مرة أخرى لمغادرة الكويت والعيش في مدينة كولون بألمانيا.

وإذا كان إسماعيل شموط يمثل البداية التسجيلية للفن الفلسطيني مطلع الخمسينيات، فإن تجربة تمام الأكحل تعتبر التجربة الرائدة بالمعنى الدقيق للريادة، فهي أول تجربة فنية تتجاوز في إبداعاتها الصيغ التسجيلية في تعبيرها عن القضية الفلسطينية، وهكذا فتحت الباب على مصراعيه للدخول في مرحلة جديدة متطورة.