مجلة العودة

الحديث عن وطن محتل يحرّك مخزون الكاتب بأكمله

الحديث عن وطن محتل يحرّك مخزون الكاتب بأكمله

جهاد الرجبي: حق العودة باقٍ

بشرعيته بقاء الذاكرة الفلسطينية

تامر الصمادي - عمّان

 منذ نعومة أظفارها وهي «تشاهد دمعاً مقهوراً في عينيها، وتشاهد والدها أيضاً وهو يتنفس رحيق الوطن الممزق.. لطالما شاركته صمته الوقور وهو يصغي بكل ما تبقى من القلب أملاً في أن يأتي صوت من مكان ما.. يلملم شتات المشرّدين ويدعو للعودة وللجهاد»..

جهاد الرجبي؛ كاتبة وشاعرة فلسطينية لكنها «مهجرة..» حالها كحال الملايين من أبناء فلسطين الأسيرة، أوراقها «اللاجئة» تحمل بين أسطرها قصص اللوعة والاشتياق الأبدي التي تخفيها جهاد بين أضلعها لفلسطين «العروس»، أما ريشتها «المقهورة» على تهجير آبائها وأجدادها من بلادهم المحتلة.. فطالما خطت بأناملها فصول العشق الذي غرس في أعماقها لفلسطين منذ الولادة. «العودة» التقت في العاصمة الأردنية عمان بالأديبة الفلسطينية جهاد الرجبي متحدثة لقرائنا الأعزاء عن آلامها وآمالها وأحلامها الملائكية في «العودة» إلى الأرض، مهما طال الزمان وتعاقبت السنون.

البدايات

 «من احتراق الذات بين ملامح الوطن والمنفى، وعلى حد السكين الغائرة في روح مكبّلة بالأسلاك الشائكة»، كانت بداية الرجبي كما تقول في حديثها لـ«العودة».

وتضيف: «وجدت نفسي أبحث عن الكلمات رغم صغري، أردت أن أقول كل ما كانت ترتعش به عينا والدي، فوجدتني أكتب شيئاً يشبه الشعر له أنفاس طفولة حائرة، في ذلك الوقت تنبّه لكلماتي أخي الأديب محمود الرجبي، وبدأ بصبر أب يعلّمني، وأجمل ما فيه أنه كان يعلّمني كيف أقرأ، وكيف أغوص في عمق الكلمة بدلالاتها وإيحاءاتها وموسيقاها ويتركني مع الكتابة وحدي، أستثمر فيها كل ما علّمني».

كتبت الرجبي القصة القصيرة في وقت مبكر جداً، وكتبت أولى رواياتها في المرحلة الابتدائية، ولا تزال حتى هذا اليوم تحتفظ بتلك المخطوطة.

كل ما كتبت الرجبي كان من الوجد والتّوق للتحرر والعودة. حصلت الأديبة الفلسطينية على عدة جوائز، ملقية الضوء على مجموعاتها ورواياتها القصصية، غير أن المحطة الأهم بالنسبة إليها كانت مجلة «فلسطين المسلمة»، فمن خلالها «بقيت على تواصل مع الأهل وأوجاع الوطن، وعبر صفحاتها التقت بالمجاهدين والاستشهاديين، ونادت بقلم مدمّى للجهاد والعودة..».

الكتابة لفلسطين

 وعن ميزة الكتابة لفلسطين تجيب الرجبي: «أكثر ما يثير المرء لغة التضارب في المشاعر، والحديث عن وطن محتل يحرّك مخزون الكاتب بأكمله، فهو يتحرّك بين جماليات الوطن، وعمق الذاكرة المتوتّرة، يطرح معاناته ووجعه الخاص عبر فضاءات يصنعها بنفسه، ويلقي عليها رؤيته للوطن وللحدث وذلك من خلال جمعه لخيوط العتمة وإشارته لخيوط الفجر التي يمكنه بحدسه أن يراها».

الكتابة لفلسطين بحسب القاصة جهاد هي: «أن تصلح كلماتك لعديد من الأزمان، وأن تتحدث بلغة إنسانية يفهمها كل قلب عربي ومسلم، ولعل هذا ما يبرر النجاح الكبير للنسخة المترجمة إلى التركية من مجموعتها القصصية «لمن نحمل الرصاص»..».

وتعتقد جهاد أنها من خلال الكتابة لوطنها المحتل تجاهد من موقعها، وتضم مداد قلمها لدماء الاستشهاديين معذرة إلى الله عن تقصيرها، وأملاً في أن يجعلها من زمرتهم يوم القيامة بحسب تعبيرها.

فلسطين بكل بهائها حاضرة حضور الجرح في الخاصرة بالنسبة إلى جهاد، تقول: «الشواطئ العنيدة التي لم تروّض بعد رغم كل ما فعل المحتل لا تزال تسبّح رب البحر بمفردات عربية، وقناطر الخليل وإن تهدّمت بقيت حجارتها تدعو الصغار للمقاومة.. حاراتنا، ترابنا، زيتوننا السخي، وكرومنا، وجدائل جداتنا، مفردات الكتابة لمن أراد أن يكتب بمداد الذاكرة الفلسطينية، أنا أعشق هذه الكتابة لأنني أنصهر في بوتقة الوطن وأحمل على الورق هوية فلسطينية مسلمة حرة! ولعلي أقيس مدى نجاحي في تجربة الكتابة بمدى نجاحي في إدخال القارئ هذه الحالة، إنني أستثمر ذاكرتي الفلسطينية للتأكيد على حتمية العودة»

الكتابة النسوية

 وترى الرجبي أن التجربة النسوية الفلسطينية في الكتابة «للجرح النازف»، وإن كانت متواضعة من حيث عدد الأديبات ونسبة حضورهن قياساً بالأدباء، إلا أن نوعية ما قدّمت المرأة في عدة تجارب إبداعية، وخاصة في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية من مختلف أبعادها بدا مميزاً ومؤثراً إلى حد بعيد، وهذا ما تقوله «ذاكرة القراء وهم يستشهدون بعبارات من صنع أديبات بعضهن رحل وسكنهن البرد وبقي الدفء في كلماتهن».

وتشير الرجبي إلى أن صفحات المجلات والصحف وكثيراً من الكتب تتدفق من خلالها أقلام نسوية فلسطينية تحمل موهبة حقيقية وتنأى بنفسها عن الإسفاف واستثمار الأنوثة في غير موضعها، غير أن الأداء والأثر من وجهة نظرها لا يزال «يشق طريقه بصعوبة».

الإنتاج الأدبي

 أول مجموعة قصصية للرجبي كانت بعنوان «لمن نحمل الرصاص» أرادت من خلالها أن «تنقل الشارع الفلسطيني بتفاصيله الدقيقة إلى القارئ، وذلك في مرحلة مفصلية من تاريخ المقاومة الفلسطينية، والتي صارت ملكاً للشارع بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى»..

صورت الرجبي من خلال تلك المجموعة المجاهدين الصغار وهم يرسمون أحلامهم بالتحرر.. حجارة تلقيها أيديهم الصغيرة على جنود مدججين بالسلاح، كما حملت مجموعتها أيضاً «أوجاع الأمهات وزغاريد البكاء، وحرقة المنفى والمعتقل.. وأحزان الشارع الفلسطيني المجاهد وبطولاته التي ستظل تفرض نفسها على صفحات التاريخ مهما اصفرت ودبّ فيها الوهن».

ونشرت الرجبي أيضاً مجموعتها القصصية الثانية والتي تحمل عنوان «اليقين»، وهي «تكمل مشوار الانتفاضة وتتعامل مع المفردات الجديدة التي بدأت تنهال على الشارع الفلسطيني بأقنعة متغيرة»، وترى القاصة المهجرة أن على الأدباء الذين أخذوا على أنفسهم عهد المقاومة أن يعملوا بأقلام حرّة، لتظل بوصلة الجهاد باتجاه القدس.

وتنبّه الرجبي إلى أن القضية التي تحملها روايتها «لن أموت سدى» تحمل من التأثير والصدقية ما يجعل طريقها ممهدة لأفئدة القراء، فهي تكمل صوراً أجزاؤها مفرّقة في مخيلة الإنسان، أما روايتها التي تحمل عنوان «رحيل» والتي استثمرت من خلالها الذاكرة الفلسطينية عن طريق نسيج اجتماعي تتحرك عبره فكرة المقاومة والاستسلام، فقد حققت اهتماماً أكبر من قبل القراء كما تقول، حيث لمست ذلك عبر العديد من المواقع الإلكترونية التي تعنى بأدب المقاومة، وكذلك من تواصل القراء معها عبر بريدها الإلكتروني.

وتتعامل الرجبي الآن مع العديد من التفاصيل الروائية التي تتحدث عن «حق العودة» لكن هذه التفاصيل هي مشروع واحد مفاده «الكتابة بنقاء دمع أمهات الشهداء المكابر، بالدم الذي لا يعرف المساومة، وبالهامة التي لغير الله لا تعرف الانحناء».

حق العودة

 وترى الرجبي أن حق العودة في جوهره حق لاسترجاع الأرض والكرامة، هو ثمن الدم الذي لا يزال يراق على ثرى الأرض المحتلة، وأوهام السلام التي يراد لها أن تتكاثر في مخيلة الإنسان العربي التي لا تملك أن تفرض نفسها أو تحقق غايات صنعها، فالسلام «لا يمكن أن يتحقق داخل خيمة الظلم العالمي، وبمباركة عربية تبررها تنازلات فلسطينية كلنا نعرف مدى تورّطها في مشروع الاستسلام».

وتقول: «لا يمكن للدم الفلسطيني أن يهدأ مقابل خريطة خجولة لا تساوي ثمن الحبر الذي رسمت به، لا يمكن للدمع الساخن أن يتوقف عن النحيب قبل عودة آخر مهجّر، لتبتسم أرض ثكلى وتطوى صفحات الأوجاع!».

وتشير الرجبي إلى أن حق العودة أمر تقرّه إنسانية الإنسان، ولا يحق لـ«سماسرة هذا الزمن المساومة عليه، ولا يمكن لأحد أن يهدر تاريخ شعب لا يزال ملتزماً بعهد المقاومة!» ولعل الجوع والحصار والعتمة التي راهنوا عليها لتكسر ظهر الجواد الجامح في غزة -بحسب تعبيرها- حملت إليهم صبر المؤمنين.

وتقول الرجبي في أثناء المقابلة «لا أخفيك شوقي وهمّي حين أكون مكبّلة بالتهجير ووطني على مرمى حجر، وبينما ألملم ذكرياتي وأشم تراباً احتفظت به من كروم العنب في الخليل، أجد من يطالبني بشيء من المرونة والتفهّم كي أتنازل عن حقي في إسناد رأسي لجدار لا يزال يحتفظ بملامح جدي، يريدوننا أن نتنازل عن عظام أهلنا في قبورهم! أتراهم لا يعرفون أن ترابنا الذي يطعمنا هو بعض أهلنا؟!..».

وتسبح الرجبي في ريشتها المهجرة على صفحاتها الأسيرة لتقول: «تجول في المخيمات لترى مفاتيح الدور معلّقة على الجدران والقلوب بها معلّقة، الجميل في الأمر أن الشبان الذين ولدوا في المنفى وولدت فلسطين في صدورهم يشترون اللوحات التي تحمل المفاتيح كرمز للعودة! لقد تربّوا على أمل الرجوع، وحين يقسو المنفى يحلمون بدفء الوطن الحاني».

وتتابع حديثها: «الذين يغادرون أوطانهم يملكون تذاكر للرجوع، ولكن الفلسطيني بلا حقيبة غادر، تاركاً خلفه قطعاً من روحه تظلل البيوت والشجر، حاملاً وعداً بالعودة برفقة السلاح! الفلسطيني في الشتات لا يقل معاناة عن أهلنا في الوطن المحتل، فأسرته في الغالب مشتتة، يأكل صدأ المخيمات المغلقة على قهرهم من لحمهم وأعمارهم.. حتى الذين استطاعوا أن يبنوا ويصنعوا لأنفسهم نجاحاً وأموالاً كثير منهم يخفي جرحه ولا ينكره، وفي كثير من الأقطار الفلسطيني مشكوك في انتمائه، مشكوك في نواياه! يتحرّق للعودة والسلاح!».

حق العودة كما تقول الرجبي باق بشرعيته بقاء الذاكرة الفلسطينية! ولا يمكن لحمائم السلام أن تحلّق فوق مآذن فلسطين دون لمّ الشمل وعودة الحق لأصاحبه، ولن يتخلّى فلسطيني حر عن شيء من الدار، فهي ببحرها وبرها وسمائها التي حضنت الشهداء لنا! ونحن إن شاء الله العائدون!

وتختم الرجبي حديثها الشيق مع «العودة» بالقول: «تفرّقنا في الأرض، وفي كل المرافئ لنا ظلال، حدودنا أينما كانت المعتقلات والأسلاك الشائكة، ولن أخبرك عن حجم المعاناة حين يكون الوطن على مرمى حجر!».♦