مجلة العودة

الشاعر الفلسطيني أبو عرب: حق العودة أهم من الدولة الفلسطينية

 الشاعر الشعبي الفلسطيني أبو عرب يتحدث إلى «العودة»

حق العودة مقدس وهو أهم من الدولة الفلسطينية بالنسبة لي

 

فاطمة برقجي/ الشارقة                 

رأيته من بعيد.. بكوفيته ولوعات الحنين التي تسكن عينيه. نسائم الجليل وعطر التين ترافق خطاه.. صوته العذب يأخذك إلى هناك.. إلى «الشجرة» التي تتزين كل يوم أملاً برجوع القوم..

الذاكرة الحية للتراث الغنائي الفلسطيني وصوت ثورته الخالدة ما زالا وفيان لوطن الأجداد.. وما زال يرسم بكلمات قصائده وألحان أغانيه لوحة العودة.. لم تستطع سنين الغربة أن تطفئ جذوة الشوق.. بل تزيدها اشتعالاً وتمرداً.. هي روح الأرض تهفو إلى حروفه فتنيرها صدقاً..

لنجد بين «الألم» و«الأمل» في أشعاره متسعاً للحياة.

العودة: كيف يعرّفنا أبوعرب على نفسه؟

اسمي إبراهيم محمد صالح من قرية الشجرة، قضاء طبرية، ولدت عام 1932 ودرست الثانوية بفلسطين ووصلت للثالث ثانوي. عندنا الثانوية للصف العاشر لأن الابتدائية عندنا كانت للصف السابع، وتعليم الإنجليزية كان يبدأ في الصف الرابع. عندما كنت طفلاً، كانت ثورة الـ1936 ضد البريطانيين، وكنت أشاهد الثوار وهم يأتون إلى قريتنا في الليل لينصبوا الكمائن للدوريات الإنجليزية.

في عام 1948 عند إعلان التقسيم، أعلن عن بدء المعارك بين الشعب الفلسطيني واليهود، كنت وأنا طفل صغير أشارك المجاهدين فأحمل الأدوية والمساعدات، ولم يكن يتجاوز عمري 16 سنة. عندما انتهيت من الدراسة قدمت أوراقي لأتعيّن أستاذ مدرسة، وقد تمّت الموافقة، إلا أنه عند بدء الثورة لم يوافقوا على تعييني بحجة صغر سنّي، مع أن من يجتاز الثالث ثانوي مؤهل.

أتذكر أننا رحلنا بعد احتلال بلدنا التي ناضلت لستة أشهر، لكن في النهاية اجتمع اليهود عليها، كان هناك قوات «الهاغاناه» وقوات «شتيرن». تجمع ما يقارب 1500 مقاتل على بلدنا وهاجمونا في ليلة بعد الساعة الثالثة ليلاً، أعتقد أن التاريخ كان 6 أيار، استمرت المعركة حوالى 5 ساعات، كان المدافعون عن بلدنا لا يتجاوزون 64 مقاتلاً استطاعوا أن يصدوا هذه الهجمة الكبيرة لمدة 6 ساعات. بعد انتهاء هذه الساعات استشهد منهم 28 وجرح أكثر من 14، لم يبقَ من المقاتلين أكثر من 22 مقاتلاً والذخيرة نفدت، فدخل اليهود البلد ووجدوا 4 عجائز فقط لأننا كنا رحّلنا الأطفال والنساء، وبقي فقط 4 نساء عجائز بقين ليحضِّرن الطعام.. قتلوهم وكان هناك شابان صغيران أمسكوا بهما وقتلوهما. فخرجت من بلدنا مع أبي الجريح إلى بلد اسمها كفركنّا، مكثنا هناك 3 أشهر، وحينما سقط لواء الجليل «الناصرة»، «صفوري»، «كفر كنا»، رحلت إلى بلد ثانية اسمها «عرّابة» ومعنا قسم من أهالي بلدنا وأقاربنا وكان معنا الشهيد ناجي العلي وأقربائي. وعندما سلم فوزي القاوقجي الجليل بكامله، ما يعتبر خيانة عظيمة، رحلنا من هناك إلى «بنت جبيل» في لبنان. هناك استأجرنا بيتاً ومكثنا شهراً، ثم جاء الصليب الأحمر ورحلنا إلى صيدا، عين الحلوة. هناك علمت بأن أخواتي بحمص، فالتحقت بأخواتي بعد شهرين. أما والدي فاستشهد ودفناه بـ«كفركنا»، والتحقت أنا ووالدتي بأخواتي في حمص، وما زلت –حتى اليوم- بحمص.

العودة: ماذا تعني لك قرية الشجرة؟

قرية الشجرة مقدسة عندي. بالنسبة إليّ قرية الشجرة بدون مبالغة أكثر الليالي أحلم بها.. بأني هناك في البيت، بأني أتسلق الكرم، مثل كابوس لا يمرّ أسبوع إلا وأحلم بها، فهي جزء من كياني.

العودة: نعود إلى البدايات الفنية، كيف كانت؟ وما هو مشروعكم الفني الفلسطيني؟ وإلى أين وصل هذا المشروع؟

بداياتي الفنية بدأت عندما كنت طالباً. كنت أحنّ للفولكور الشعبي، فعندما يقام عرس أحضره. عندما رحلنا إلى حمص بعد النكبة بـأربع سنين كنت أشارك بالأعراس، فوجدت أن عندي مَلَكة الشعر، أنني أستطيع نظم الشعر الشعبي. وكانت بدايتي الفنية الأولى في إذاعة «صوت العرب» في القاهرة. كان هناك برنامج اسمه «أهازيج ومكاتيب»، وكانوا يريدون أغاني فلسطينية، فسجلت هناك بعض الأغاني الفلسطينية، وبقيت ثلاثة أشهر ورجعت إلى سوريا. عند انطلاقة الثورة في عام 1965 و1967 أصبحت أغني أغاني ثورية وأسجلها على الكاسيت. وعندما انطلقت إذاعة «الثورة» بالفاكهاني التحقت بها، وأصبح لي ركن خاص بالإذاعة هناك. فكنت أداوم تقريباً 15 يوماً بالشهر في الإذاعة، أسجل عن الأحداث والأسير، والشهيد، والمبعدين، وثورة الخليل، ألاحق الأحداث وأغني لها. وبقيت على هذا الحال حتى عام 1982 وقتها حوصرنا في بيروت. بعد حصارنا بـ15 يوماً، علمت بأن ابني استشهد. كان مهندساً في معمل السماد في حمص، وتطوع وأخذ السلاح ودخل لبنان مع جماعته، وقاموا بعملية فدائية وراء الخطوط. واستشهد معه رفاقه، منهم ابن عمه واسمه سمير عبد الرحمن، ودفنوا هناك. ولم يستطع أحد جلب جثثهم لأنهم وراء حدود العدو.

عدت إلى حمص بعد خروجنا من لبنان، وألفت «فرقة فلسطين للتراث»، وشاركت كل الجبهات عندما نظمت احتفالتها، حتى استشهد ناجي العلي فغيرت اسم الفرقة إلى فرقة «ناجي العلي». غنيت للشهداء، لأي شهيد مهما كان انتماؤه أرثيه، فرثيت كل الشهداء الرموز ابتداءً من أبوعلي إياد، صلاح خلف، أبوجهاد، أبو علي مصطفى، فتحي الشقاقي، الشيخ أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتسيي، وياسر عرفات أخيراً.

العودة: ماذا عن كتابكم «حداء الثورة»؟

 صدر لي 30 سي دي يحتوي على حوالى 320 أغنية. فالديوان الأول سجلت فيه قصائد أول 11 شريطاً.

العودة: ألم يكن إصدار الكتاب متأخراً؟

 تأخرت لأسباب مادية، وحالياً هناك ديوانان سيصدران قريباً.

العودة: كيف تنظر إلى الجيل الجديد من الفِرَق؟ خاصة بعد تعاونك مع عدد منهم؟

 للأسف هناك نوعان من الجيل الجديد للفِرَق: نوع يتمسك بمبادئ أخلاق ديننا الإسلامي، ونوع مع الأسف يقدم أغاني ثورية، إلا أنه أحياناً يقدم أغاني ركيكة، ولا يلاحق الحدث. ومع الأسف «كل حزب بما لديهم فرحون» كلها انتماءات وهذا ما أنا بعيد عنه. الإنسان يجب أن يغني لفلسطين فقط، وأنا أعتبر الشهيد لكل فلسطين، استشهد لأجلها، وأعتقد بأن الفِرَق يجب أن تترفع عن هذه الأمور.

العودة: حق العودة. ماذا يعني لأبو عرب؟

 حق العودة مقدس! خط أحمر بالنسبة إلى الفلسطينيين، بالنسبة إليّ حق العودة أهم من الدولة الفلسطينية، لأنني عندما أعود سأقرر مصيري لأنني الأغلبية. أما الدولة الفلسطينية هذه فانتظرناها، 15 سنة، ما الذي استفدناه؟؟ وعود ومفاوضات؟!

العودة: ما رأيك بالوضع الفلسطيني الراهن؟

مؤسف جداً، وأنا أنصح بالوحدة. والوحدة هي قوتنا، وأستغرب جداً من غير المتحمسين للوحدة، والذين يتهربون منها. المؤسف أن تحاصَر غزة، ويجوّع أهلها ولا يوجد أي صوت يقول يا جماعة لا يجوز، هذا الشعب شعبنا والمناضلون في غزة هم رأس النضال يجب أن لا يتركوا وحدهم، يجب على كل عربي ومسلم أن يوجه دعمه للشعب المحاصر.

العودة: ما دور الفن الملتزم المتمسك بالثوابت، وخصوصاً في هذا الوقت العصيب؟

 مع الأسف، دور الفن الملتزم محاصر، كما أهل غزة محاصرون!! كثير من الدول العربية عندما أدعى لها يسألونني ماذا ستغني؟ ماذا ستقول؟ تلفزيون فلسطين تصوري أنه لا يعرض لي أي شريط أو أغنية لأنهم يعتبرونها تحريضية. فلماذا أعتب على العرب، عليّ أن أعتب على أهلي الذين هم نفسهم المشرفون على إذاعة الفاكهاني التي كنت من روادها الأوائل في بيروت.

العودة: هل تشعر بأن الشعر الشعبي ينتقل إلى الأجيال الفلسطينية الجديدة، وبأنه يحظى باهتمامهم؟

 أنا بالمناسبة أقول كل أنواع الشعر النبطي والفصيح، لكن الشعر الشعبي هو الأقرب لدخول الذاكرة. عند الشعب تَجِدين الشعر الشعبي عند الفلاح في الحقل يغنيها، التلميذ بالمدرسة، والعامل بالمصنع، والمرأة في البيت. أما الشعر المقفى، فلا يحفظه إلا المتابع أو المثقف. إذا سألتِ أي شعب، تجدين بين كل 20 واحداً.. شخصاً واحداً فقط يحفظ قصيدة لدرويش أو نزار أو أحمد دحبور. بينما أي أغنية فلسطينية يمكن أن تجدي المئات يحفظونها.

أنا مستبشر بالشعب الفلسطيني بأنه بعيد عن الأغاني السافلة المنحطة وأجد أنهم في أعراسهم وأفراحهم يرددون الكلمات الثورية، والأغاني الملتزمة، أو إذا كانت أغاني تراثية تكون محترمة لا يوجد فيها ميوعة أو انحطاط.

العودة: ما هي آخر أشعارك التي غنيتها في الفترة الأخيرة؟

شريط رثاء الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وشريط رثاء لأبوعمار. وفي شريط أحمد ياسين غنيت لريم الرياشي ولبغداد وللمقاومة العراقية. وفي شريط أبو عمارغنيت تخليداً للشهداء قلت:

بجنة رب العالمين

مع شهداء الخالدين

تلاقي فتحي الشقاقي

الرنتيسي وأحمد ياسين

وتلاقي خيك أبو جهاد

مع أبوعلي إياد

والبطل أبوالعباس

وصلاح خلف أبوإياد

 وقد كتبت بيت عتابا ارتجالياً للاستشهادي علاء أبو دهيم أقول فيه:

بلادي ما حوت نذل وفينا (فينا: إنسان سيئ "عاطل")

غزة شعبها منا وفينا

إشهدي يا غزة لعهدك وفينا

علاء هالبطل صفّى الحساب

العودة: بعد عمر طويل، بماذا توصي الأجيال الفلسطينية؟

 أرجو من الأجيال الفلسطينية أن تبقى متمسكة بقضيتهما، وأن يبقى الشاب الفلسطيني مثلاً للأخلاق والشرف، ويبتعد عن هذه المغريات التافهة التي توجه إلينا حتى تزيد من انحطاط الشعب وسوء سلوكه. أتمنى أن يتمسك الشعب بقضيته ويبقى رمزاً للشعوب العربية.