مجلة العودة

الشاعر هارون هاشم رشيد يتحدث إلى «العودة»

الشاعر هارون هاشم رشيد يتحدث إلى «العودة»:

لا حل للغرباء إلا بالعودة إلى أوطانهم

حوار/ عبد الرحمن هاشم

الشاعر هارون هاشم رشيد - شاعر الثورة واللاجئين، وشاعر الغرباء، كما يصفه عدد من النقاد- عاش ألم المشردين، وذاق مرارة الاغتراب ووحشته، وسكنته هموم وطنه، وسافر كالسندباد إلى كل مكان، ولكنه كان في كل فضاء يحمل في وجدانه الجريح وطنه المجروح، ويدق بقصائده الأجراس.

أصدر عشرين ديواناً شعرياً منذ عام 1954 حتى الآن، إضافة إلى عدد من المسرحيات الشعرية والروايات التي تعالج هماً واحداً ومحوراً واحداً هو القضية الفلسطينية.

من هنا تأتي أهمية الحوار مع أحد أبرز الشعراء الفلسطينيين في العصر الحديث (هارون هاشم رشيد)، وخاصة أنه بلغ الثمانين ربيعاً، عاش معظمها مجاهداً بالكلمة، مدافعاً عن الحق الفلسطيني، مؤمناً بأن الثأر لن ينام في صدره، وإن طال مداه، ومعتقداً أن فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى.

الشاعر هارون هاشم رشيد، اسم معروف في الشعر الفلسطيني وأدب العودة، متى بدأ رحلته مع الشعر؟

بدأت كتابة الشعر مبكراً جداً، فكانت أول محاولة وأنا طالب في المرحلة الابتدائية؛ حيث قرأت إعلاناً في لوحة الإعلانات بكلية غزة عن مهرجان أدبي بعنوان «سوق عكاظ» مطلوب فيه من طلبة الثانوي فقط تسجيل أسمائهم أو أسماء من يستطيعون المشاركة في كتابة الشعر، أو إلقائه، أو التمثيل، أو المطارحة الشعرية، تجاهلت ذلك الشرط، وسجلت اسمي في كتابة الشعر والإلقاء والمطارحة الشعرية، وفي اليوم التالي استدعاني مدير الكلية الأستاذ وديع ترازي (رحمه الله)، ونبهني إلى أن المشاركة مقتصرة على طلاب الثانوي فقط.

لم أقتنع بذلك، وذهبت في مساء ذلك اليوم إلى القسم الداخلي في الكلية؛ حيث يقيم أستاذي في ذلك الزمان الشاعر الكبير سعيد العيسى، وأعربت له عن رغبتي في المشاركة، وأسفي لما أبلغني إياه مدير الكلية، وتمكن أستاذي سعيد العيسى (رحمه الله) من إقناع مدير الكلية بمشاركتي، وكانت المفاجأة في يوم المهرجان، وعند إعلان نتائج المسابقات أن أنال الجائزة الأولى في كتابة الشعر، وكانت الجوائز التي قد قدمت لي هي أجزاء ديوان شوقي، وديوان حافظ، وديوان المتنبي، ومنذ ذلك التاريخ أسرني الشعر لأصل إلى ما وصلت إليه.

ديواني الأول «مع الغرباء» صدر عن رابطة الأدب الحديث عام 1954، وقدم له الدكتور عبد المنعم خفاجي. لقي الديوان ترحيباً كبيراً، وانتشر انتشاراً واسعاً تحت عنوان «شعر فلسطين»، لهارون هاشم رشيد، وكان من أسباب انتشاره أيضاً أن عدداً من قصائده اختيرت من قبل عدد من الفنانين وقدمت في إذاعة صوت العرب والإذاعات العربية الأخرى.

وفي عام 1956م صدر ديواني الثاني الذي كان نقلة أخرى، وبقدر ما تناول الديوان الأول «مأساة النكبة»، وعذابات اللاجئين، تناول الديوان الثاني «عودة الغرباء»، الذي صدر في بيروت، الدعوة إلى النهوض فوق الجراح، وإلى تجمع الشتات، وإلى العمل العسكري، وكانت البشارات الأولى والدعوات الأولى للشعر الفلسطيني إلى جمع الشتات والاستعداد للثورة.

ومن قصائده التي انتشرت انتشاراً واسعاً «صرخة لاجئ» ونشيد «عائدون» الذي أصبح النشيد الوطني والشعبي للاجئين في مختلف مواقع الشتات، والذي كرّس كلمة «عائدون» شعاراً لتصميم الشعب الفلسطيني على العودة، وعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وإلى بيوتهم، وإلى مقدساتهم.

وبعد ذلك توالت الدواوين التي زادت على 20 ديواناً، وكلها في همّ واحد، ومحور واحد، وطريق واحد، وسبيل واحد، هو عودة الفلسطينيين إلى أوطانهم، وعودة فلسطين كلها من البحر إلى النهر إلى شعبها.

- «الشعر سبق السلاح في الجهاد الفلسطيني» كيف ترى صدق هذه المقولة؟

أستطيع أن أجزم عبر مسار العمل الفلسطيني منذ العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وحتى الآن أنه كان للكلمة السبق دائماً، والإعداد والدعوة، والحثّ على الثورة، وأكبر دليل على ذلك أن القصائد الشعرية بعد النكبة للعديد من الشعراء الفلسطينيين، وما كتبته، كان دعوة إلى النهوض على الكارثة والنكبة والمأساة.

عندما حلت النكبة عام 1948، قال أحدهم معلقاً على مشكلة اللاجئين: «إن قضية اللاجئين ستُحلّ، فالكبار سيموتون والصغار سينسون»، ولكن الكلمة استطاعت أن تواكب أجيالاً جاءت في ما بعد لتأتي أشد تمسكاً بالقضية وبالجهاد، وبالثقة بالنصر ممن سبقها، والأمثلة تكرس كل يوم هذه الحقيقة، وتقدمها الأجيال الفلسطينية، التي تؤمن بأن الجهاد هو باب من أبواب الجنة.

لقد قلت قديماً: «قاتلَنا الصهاينة بعقيدة صهيونية، فلا يكفي أن نحمل السلاح في وجوههم، بل أن نحمل عقيدة تواجه عقيدتهم، وعقيدتهم على باطل، وعقيدتنا على حق {إن الباطل كان زهوقاً}، وقد أثبتت الأيام أن التمسك بعقيدة الجهاد هو السبيل الوحيد إلى تحقيق النصر، دون التعصب إلى أية فئة أو فصيل، أو جماعة، إلا فلسطين كلها والقدس الشريف المبارك.

- ما تقويمك لتفاعل الأدباء والشعراء العرب مع القضية الفلسطينية؟

للأسف الشديد، هناك تراجع كبير في الإبداع بما يخص القضية الفلسطينية، والهمّ الفلسطيني؛ لأننا نعيش زمناً رديئاً تسربل بالصمت والاستسلام والاستخذاء والركوع، مما يتطلب من القابضين على الجمر أن يشدوا أيديهم أكثر فأكثر؛ لأنهم في النهاية هم المنتصرون، وباستطاعتك؛ لكي تتأكد من مقولتي هذه- أن تفتح أية صحيفة بحثاً عن كلمة أو قضية أو قصيدة، كما كان يحصل في الزمن الماضي، عن فلسطين، فلن تجدها! فالشعر الأصيل اختفى، والشعر الوطني اختفى، واللغة العربية اختفت. وكما قلت، فنحن في الزمن الرديء، وللأسف الشديد، فإن الذين يشرفون على معظم الصفحات الثقافية في الصحف العربية، جرفتهم التيارات التي يسمونها الحداثة لتنأى بهم عن قضاياهم وهموم وطنهم.

- كيف ترى صورة القدس وفلسطين في الشعر المصري خاصة؟

احتلت القضية الفلسطينية موقعاً مهماً في الأدب المصري والشعر المصري منذ «رسالة» الزيات، وهناك شعراء كثيرون تناولوا فلسطين والقدس تحديداً في شعرهم، وقد عملت في أواخر الستينيات على أن ينعقد في غزة مؤتمر الأدباء والكتاب العرب ومهرجان الشعر العربي، وتحدثت عن هذا تفصيلاً في كتابي «إبحار بلا شطآن»، وقدمت نماذج من القصائد التي ألقاها شعراء مصر، وفي مقدمتهم محمود حسن إسماعيل، وصالح جودت، وأحمد رامي، وعبده بدوي، وغيرهم.

فلقد ظلَّت فلسطين- وما زالت- وستبقى هماً مصرياً؛ لأنها قضية مشتركة تقف جنباً إلى جنب في مواجهة الهجمة الصهيونية التي لا تستهدف فلسطين فحسب، بل تستهدف الوطن العربي كله، وعندما يقولون «من الفرات إلى النيل» يعنون أنه ليست فلسطين الهدف فقط، وبل العراق ومصر، وقد تمكنت أيديهم الملوثة من أن تمتد إلى العراق العظيم في محاولة للقضاء عليه كقوة عربية مهددة للمؤامرة الصهيونية، وستبقى مصر دائماً الضمان لهزيمة المخطط الصهيوني بشعبها الذي لم تستطع أية قوة أن تكسر إرادته أو تجرّه إلى التطبيع مع العدو الصهيوني، ولعل من الأشياء التي أعتز بها أن قصيدتي «صرخة لاجئ» تقررت في المناهج الدراسية في مصر من سنوات بعيدة لتنتقل إلى المناهج الدراسية في الوطن العربي كله، ومما يزيد من سعادتي أن أجد في هذا الزمان قصيدتي «عربية يا قدس» في المناهج الدراسية المصرية، ليعود الصوت عالياً مرة أخرى من أجل فلسطين وقضية اللاجئين.

- ردّدت منذ أكثر من خمسين عاماً «عائدون عائدون.. إننا لعائدون»، لكن قضية اللاجئين، ما زالت رغم كل المحاولات معلقة في الهواء.. ماذا تقول؟

أكبر ردّ على هذا ما رأيته على القنوات الفضائية من هبات للشعب الفلسطيني، وللمؤسسات الفلسطينية تحت الاحتلال، وفي الشتات، وفي المنافي في وجه ما جرى في مؤتمر السلام بأنابوليس؛ محذرة من أي مسا س بحق اللاجئين في العودة إلى مدنهم وقراهم، وممتلكاتهم في كل فلسطين، وأن أي تنازل أو توقيع من أي أحد، أياً كان مرفوض، فهذا حق للشعب الفلسطيني في وطنه وأرضه ولا تنازل عنه.

ففي قصيدتي التي تغنيها فيروز «مع الغرباء»، والتي كتبتها فوراً بعد النكبة في صورة حديث بين اللاجئة ووالدها، تتساءل فيه: لماذا نحن يا أبت لماذا نحن أغراب، في نهاية القصيدة المغناة منذ حوالى 40 أو 50 سنة، أقول:

هذه الكلمات باقية ومسجلة في الأغنية بصوت الفنان المصري محمد الطوخي.

وترعش دمعة حرّى

وتمضي صرخة ابنته

فيصرخ سوف نرجع

فلم نرض له بديلاً

ولن يقتلنا جوع

فصبراً يا ابنتي صبراً

وتدفق خلفها دمعه

وتطرق في الدجى سمعه

سنرجع ذلك الوطنَ

ولن نرضى له ثمنا

ولن يرهقنا فقر

غداة غدٍ لنا النصر

مُنذ اللحظات الأولى للنكبة كانت صرختنا أنه لا بديل لفلسطين، ولا ثمن لها، وسيظل نشيد «عائدون» الذى لحنه الفنان «محمود الشريف»، سيظل عالياً ليحقق نبوءة هذا الفنان عندما قال لي يوم أن لحّنه: إنني أتنبأ بأن يواكب هذا النشيد الشعبي الفلسطيني عند العودة، وأن يكون هو النشيد القومي للشعب الفلسطيني.

- يقولون إن الألم غالباً ما يصنع الشعر الخالد، ما مدى صدق هذه المقولة قياساً على شعر هارون هاشم رشيد؟

عندما تعود إلى العشرين ديواناً التي شملت قصائدي، تجد أنه ما من قصيدة إلا وقد فجرها الألم، وأنها كانت التعبير الصادق عن لحظة المعاناة، فالألم هو أقدر من يشحذ الإبداع، ويخلد اللحظة عندما يعبر بصدق عن تلك اللحظة.

- هل فقد الشعر دوره في ظل وسائل الإبداع الأخرى الأكثر جاذبية وتأثيراً على البشر؟

لا يستطيع أي إبداع آخر أن يلغي الشعر، فالشعر هو التعبير التلقائي الأول عن لحظة المعاناة، وإذا صدق التعبير وصل إلى الآخر، وسيظل الشعر هو المعبِّر الأول والرئيسي عن المأساة الفلسطينية.

ما يجري ليس ذنب الشعر، بل هو ذنب النوافذ والأبواب والصفحات التي تغلق في وجه الشعر الفلسطيني، ولم تستطع ما تسمى بالمدارس الرمزية أو السريالية أو غيرها أن تهزم الشعر الفلسطيني الذي يعبر عن الإنسان الفلسطيني، وستبقى يافا وحيفا وعكا والقدس وكل فلسطين هي أحلى القصائد وأجملها وأغلاها.

- بلغت في تموز/ يوليو 2007 الثمانين من عمرك، كيف تنظر إلى المستقبل؟

أخي مهما أدلهم الليل

ومهما هدنا الفقر

أخي والخيمة السوداء

غداً سنحيلها روضاً

غداً يوم انطلاق الشعب

سنمشي ملء عين الشمس

فلسطين التي ذهبت

سوف نطالع الفجر

غداً سنحطم الفقر

قد أمست لنا قبرا

ونبني فوقها قصرا

يوم الوثبة الكبرى

نحدو ركبها الحر

سترجع مرة أخرى

هذا هو المستقبل الذي أراه، فلسطين ستعود إلى أهلها، عاجلاً أو آجلاً.♦