مجلة العودة

وزير العدل السابق الشاعر والأديب ناهض الريّس

 وزير العدل السابق الشاعر والأديب ناهض الريّس:

يوجد قصور كبير في استيحاء نكبة فلسطين واللاجئين في الأدب والفكر العربي

 

  حوار/ وائل المناعمة

لم أكن أتصور أن يتشعب حواري مع الأديب والشاعر ناهض منير الريس لينتقل من الأدب إلى السياسة ثم إلى الواقع الذي نحياه، فالرجل كان صريحاً وجريئاً في الإجابة عن جميع الأسئلة، وهو كنز من المعلومات والتاريخ المعاصر، حيث ولد في عام 1937، وتخرج من جامعة القاهرة، وكان أحد مؤسسي الاتحاد العام لطلبة فلسطين بالقاهرة عام 1958، ثم عمل وكيلاً لنيابة مدينة غزة حتى عام 1965، وعندما شعر بالخطر المحدق بالأرض والقضية الفلسطينية ترك عمله وتطوّع ضابطاً في جيش التحرير الفلسطيني.

من هناك تنقل في مواقع كثيرة في الثورة الفلسطينية، من تأسيسه للقضاء الثوري التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، لرئاسة العديد من محاكم المنظمة. ولدى عودته إلى غزة مرة أخرى مع عودة السلطة الوطنية عُيّن مستشاراً بالمحكمة العليا ثم انتخب نائباً في المجلس التشريعي عام 1996 عن دائرة غزة وشغل منصب النائب الأول لرئيس المجلس وترأس لجنة صياغة القانون الأساسي، ثم عين وزيراً للعدل.

على الرغم من هذه الرحلة من الكفاح والعمل السياسي، إلا أن ذلك لم يثنه عن اهتماماته الأدبية والشعرية، حيث ألف العديد من الكتب في الأدب والسياسة وقصص الأطفال والشعر كـ«غناء إلى مدن فلسطين»، و«فلسطين في الزمن الحاسم»، وكتب بعض المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية.

نحن من يجعل الأرض تنطق

 بداية حواري مع الشاعر ناهض الريس سألته عن مصدر اهتمامه الأدبي والشعري بقضية اللاجئين على الرغم من كونه من عائلات غزة الثرية وصاحبة الأملاك، حيث لفت انتباهي أعمال فنية تزين جدران بيته تمثل خريطة فلسطين وقبة الصخرة المشرَّفة، وزخرفة تمثل الفلكلور الفلسطيني فقال: جميع موضوعاتي مرتبطة بالقضية التي تمثل الشعب والأرض الصامتة التي نحبها، فهي بلادنا الجميلة التي ابتليت، ونحن بأعمالنا الأدبية والسياسية والشعرية نجعلها تنطق. وأضاف: نحن الفلسطينيين جسم واحد إذا كنا مؤمنين ومخلصين، وقضية فلسطين هي قضية الحق الضائع، وقضية اللاجئين هي قضية كل مسلم وعربي صادق. وأودّ أن ألفت الانتباه إلى أن بعض الذين يرددون كلام الاحتلال يقولون إن القضية تعني اللاجئين حيث تم تقسيمنا منذ عهد الاحتلال الصهيوني إلى لاجئين ومواطنين، وهو تقسيم غير صحيح، فنحن شاهدنا النكبة وعاصرنا قضية اللاجئين من اللحظة الأولى، حيث أقاموا في بيوتنا لأن كثيراً منهم من أقاربنا فنحن استضفنا عائلتين من آل الريس واحدة قادمة من المجدل والأخرى من يافا، فشعرنا بمدى الظلم الذي وقع على شعبنا وما تلاه من واقع أليم على حياتنا في قطاع غزة نتيجة الاحتلال، فكل ما كتبناه من سياسة وأدب كان موضوعه القضية الفلسطينية بشقّيه: الأرض والناس. واستطرد قائلاً: أنا ابن بلد؛ أي مواطن، وتلقيت تعليمي في القاهرة وتركت وظيفتي وكيل نيابة وتطوعت في جيش التحرير الفلسطيني من أجل استرداد فلسطين في الوقت الذي كنا ننعم فيه بحياة هادئة داخل القطاع، وأقول إن أي فلسطيني شريف وصادق مع نفسه لا يمكن إلا أن تكون قضية اللاجئين ذات أهمية كبرى في فكره وتصوراته وحياته كلها.

أعتب على الأدباء العرب

وعن رأي الشاعر ناهض الريس في الإنتاج الفكري والأدبي الخاص بقضية فلسطين واللاجئين وحق العودة، أكد وجود قصور كبير في استيحاء نكبة فلسطين واللاجئين في الأدب والفكر العربي، مضيفاً أن الواقع السياسي العربي بعد النكبة وعلى ضوء الانفصال والقطرية وإلحاح الحكام على الإشادة كل بقطره، وجعل سايكس بيكو عقيدة وطنية بدلاً من أن يقال إنها كانت أم النكبات أدى إلى اشتغال كل بلد بنفسه وبقضاياه المحلية وعملت الحدود على ترسيخ هذا الواقع الذي يضمن للاستعمار الصهيوني التفتيت الدائم وبالتالي الضعف الدائم ومن ثم سيطرتهم الدائمة، لذا وجدنا أن نكبة فلسطين لم تلقَ من قِبل الأدباء العرب أعمالاً جديرة بأن تكون على قدر خطورة الحدث وضخامته وما فيه من صور ووقائع وآلام كان يفترض أن تكون مصدر إلهام لأعمال أدبية كبرى، واستدرك الريس قائلاً: الشعراء العرب تناولوا هذه القضية بالكثير من القصائد التي تتفاوت جودة أو رداءة، وهي مع ذلك عديدة وكثيرة، ونذكر هنا بصورة خاصة ديوان هارون هاشم رشيد بعنوان «مع الغرباء»، ونذكر بشكل خاص ديوانَيْ يوسف الخطيب «العيون الظماء للنور» و«عائدون» وغيرها من القصائد التي نظمها الشعراء العرب من مصر والعراق وسوريا والأردن والسعودية ودول الخليج وغيرها من الدول عن اللاجئين والعودة، ولعل دور النشر تتولى جمعها في كتاب أو سلسلة كتب.

ولكن المحزن حقاً هو إغفال هذه القضية وما تشتمل عليه من مقدرة على الإلهام في نطاق الرواية العربية، وقد نعزو ذلك إلى أن فن الشعر في بلادنا متقدم على فن الرواية، ولكن هذا التعليل غير كافٍ، لأن بعض الأدباء العرب كتبوا مطولات من الثلاثيات والخماسيات وغير ذلك التي استوحت وقائعها من الحياة الشعبية أو الريفية بينما لم تحظ قضية اللاجئين بل مأساتهم المدويّة الأليمة برواية ولو واحدة من قلم الروائي القدير نجيب محفوظ مثلاً، ومن المثير للانتباه أن يوسف السباعي كتب في إحدى رواياته عن فتاة لاجئة فلسطينية تعيش في كنف أسرة مصرية وقد جعلها في موقع خادمة بكماء تقريباً، وأذكر كذلك الكاتب والشاعر العظيم الدكتور وليد سيف الذي ألف «التغريبة الفلسطينية» بما تحويه من عناصر الدراما التي أدهشتنا جميعاً.

 الأدب أقرب إلى النفوس

«الأدب واحد من أهم الآثار الفكرية وألصقِها بالأذهان، نظراً لما للأشكال الأدبية من تأثير ووقع في النفوس»، بهذه الكلمات أجاب الشاعر الريّس عن سؤالي حول أهمية الأدب في التمسك بالحقوق والثوابت، مضيفاً أن قضيتنا ثابتة وراسخة في القلوب وفي الضمائر نظراً لجهود الآباء والأمهات في الأسرة الفلسطينية في نقل تجربتهم إلى أجيال الأبناء. وعلى الرغم مما في القضية من عدالة ظاهرة وساطعة فإن ذلك كله لا يُغني عن الآثار الأدبية العامرة بالإبداع وقوة التأثير لكي تبقى الأجيال على صلة روحية بوقائع قضيتنا وبالدروس المستفادة منها، وكي يطلع القراء في العالم بأسره على حقائق هذه القضية مكتوبة باللغة العالمية لغة الأدب والفن، ومن ناحيتي لا يزال حلمي الأدبي هو كتابة رواية فلسطينية كبرى تستمد وقائعها ووحيها من الهجرة الفلسطينية عام 1948. وما تلاها ذلك لأن الروايات هي المادة التي يمكن إعادة إنتاجها في ما لا يحصى من الفنون الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية، وهي أقرب إلى نفوس عامة الناس من الشعر الذي تراجع دوره في حياة أكثرية القراء حتى المثقفين منهم، ووجّه الريّس اللوم إلى السلطة لعدم اهتمامها باتحاد الكتاب والجمعيات الأدبية وعدم توفير الدعم اللازم لنجاحها وقيامها بدورها المطلوب.

معركتي مع الفاسدين مستمرة

وعند سؤالي للأستاذ ناهض الريّس عن علاقاته السياسية، وخاصة أنه من الرعيل الأول للحركة وتنقّل بين مناصب رفيعة في الحركة سواء في الداخل أو الخارج، قال: لا شك أن حركة فتح تمثل شيئاً كبيراً في التاريخ الفلسطيني، فهي قفزت بالقضية الفلسطينية قفزة كبيرة إلى الأمام عندما فجرت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، فعبّرت تعبيراً قوياً عن الروح والآمال التي سادت وشاعت في المجتمع الفلسطيني وشرائح الشباب منه بصورة خاصة، ولكن انتقال الحركة إلى الداخل بموجب الاتفاقية المرحلية قد رافقه اختلاط إشكالي في ما ينبغي أن تكون عليه مهام هذه الحركة النضالية، وأشير هنا تحديداً إلى الموقع داخل الحركة الذي صارت تشغله بعض «الشِّلل» التي تعمل في الأمن والتنسيق الأمني، والتي أصبحت موضع اهتمام الأمريكان والإسرائيليين علناً ودون أن يخفى ذلك على الشارع الفلسطيني.

عند ذلك بدأنا (أنا والمتمسكون بمبادئ الحركة) نشعر بالاغتراب، ووجدت أن الرعيل الأول معظمه لا يتكلم ولا يفعل شيئاً إزاء هذه الظاهرة الخطيرة التي شابت حاضر الحركة وألقت بظلال ثقيلة على مستقبلها.

وجاءت مناسبة الانتخابات التشريعية الأخيرة، فلم أشعر بأنني سأكون على طبيعتي إذا خضت الانتخابات بصحبة هؤلاء الذين استغلوا الحركة للإثراء و«البزنس» والمكانة الاجتماعية وعملوا مدعومين من قبل الأمريكان والإسرائيليين ليتصدروا زعامة الفلسطينيين ولتصبح مرجعية القرارات في السلطة الفلسطينية في أيديهم، ولذلك خضت الانتخابات مستقلاً، مما دفع الرئيس محمود عباس إلى فصل 76 كادراً من كوادر الحركة وكنت واحداً منهم. لكن معركتي مع هؤلاء كانت قد بدأت في وقت مبكر حيث نطقت في المجلس التشريعي من فوق منصة الرئاسة وفي مقاعد الأعضاء بانتقاداتي على مسلك الحركة في الحكم والسلطة ولم أوفر الأجهزة الأمنية من هجماتي، الأمر الذي عرّضني للمكائد ومحاولات التشويه التي استخدموا فيها إمكانات أجهزتهم والمال العام الموجود بين أيديهم.

وحول حصار غزة أوضح الريس أن ذلك الحصار من النبوءات التي أنبأنا بها رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حينما بشرنا بالرباط، وها هو الرباط في أقسى أشكاله يضيق علينا الخناق، وها نحن نجد أنفسنا أيضاً في الحديث الشريف الذي يتحدث فيه (صلى الله عليه وسلم) قبل خمسة عشر قرناً عن الطائفة من الأمة التي تظل على الحق ظاهرة لعدوّها قاهرة لا يضرّها من خالفها ولا ما مسّها من لأواء، ويعزيني كثيراً إحساسي بأن الرسول الكريم كان يشير إلينا بالغيب في ذلك.

وختم الشاعر ناهض الريس حديثه إلينا قائلاً: أريد أن أمنح حق طباعة كتيّبي عن اللاجئين بعنوان «اللاجئون الفلسطينيون تاريخ وحقائق وإحصاءات» لأي فصيل أو مؤسسة أو لجنة في الداخل لتبقى هذه القضية العادلة حاضرة في قلوبنا حتى عودة الحق لأهله. ♦