مجلة العودة

وعد بلفور هبة من لا يملك لمن لا يستحق

وعد بلفور

هبة من لا يملك لمن لا يستحق
بقلم د. محمد توكلنا

في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام ألف وتسعمئة وسبعة عشر ميلادي، أصدرت الحكومة البريطانية أخطر وثيقة، بل أشدها إجحافاً بحق الشعب الفلسطيني على مدى التاريخ؛ فقد وجّه وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور رسالة إلى اللورد روتشيلد، أحد زعماء الصهيونية يعلمه تبني حكومته إقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين، وذلك ما أطلق عليه وعد بلفور، وطلب منه توزيع نص الرسالة على العصبة الصهيونية. وقد نصّ وعد بلفور على ما يأتي: "تؤيد حكومة صاحب الجلالة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل إنجاز هذا الهدف، ولا بد أن يكون مفهوماً بجلاء أنه لا يمكن عمل شيء مجحف بالحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية في فلسطين، أو الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".

لقد سبقت أحلامُ اليهود الصهاينة بالاستيلاء على فلسطين وعد بلفور بزمن طويل؛ إذ بدأ الصهاينة منذ عام ألف وتسعمئة واثنين ميلادي بالضغط على البريطانيين لدعم برنامجهم، وقد اكتشف هيرتزل منذ بداية نشاطه حقيقة بدهية، وهي أنه لا بد لتنفيذ المخططات الصهيونية من الاعتماد على دولة إمبريالية كبيرة، تقوم بتوفير الأرض للمستوطنين وحمايتهم من السكان الأصليين والدفاع عنهم في المحافل الدولية. لذا توجه هيرتزل إلى جميع الدول الكبرى ذات المصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط، ابتداءً بالدولة العثمانية، ومروراً بفرنسا وألمانيا، وانتهاءً بإنكلترا. ففي ذلك العام، حضّ ثيودور هيرتزل الحكومة البريطانية، وبشكل خاص وزير المستعمرات جوزيف تشمبرلين، على تأييد الاستيطان اليهودي في فلسطين. وخلال عامي ألف وتسعمئة وخمسة عشر وألف وتسعمئة وستة عشر، ضغط القادة الصهاينة، ولا سيما حاييم وايزمان، على الحكومة البريطانية للتصديق على فكرة قيام وطن يهودي في فلسطين.

وعندما صدر وعد بلفور أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت القوات البريطانية تحارب للاستيلاء على فلسطين من الدولة العثمانية التركية. وأرادت بريطانيا أن تحكم فلسطين لموقعها قرب قناة السويس التي تصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر. واعتقد البريطانيون أن وعد بلفور سيساعد على كسب التأييد لهذا الهدف من زعماء اليهود في بريطانيا والولايات المتحدة وفي دول أخرى. وفي عام ألف وتسعمئة واثنين وعشرين صدّقت عصبة الأمم على وعد بلفور وأعطت بريطانية حق الانتداب على فلسطين.

والجدير بالذكر أن بريطانيا كانت بين عامي ألف وتسعمئة وخمسة عشر وألف وتسعمئة وستة عشر تطمئن الشريف حسين (شريف مكة) من خلال ما سمي (مراسلات حسين – مكماهون)، وهنري مكماهون كان الممثل الأعلى لبريطانيا في مصر، وكان موضوع الرسائل يدور حول المستقبل السياسي للأراضي العربية في الشرق الأوسط، إذ كانت المملكة المتحدة تسعى إلى قيام ثورة مسلحة على الحكم العثماني. فوعد مكماهون الحسين بن علي باعتراف بريطانيا بآسيا العربية كاملة دولة عربية مستقلة إذا شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية. وهذا ما تمّ خلال الثورة العربية الكبرى. وقد رأى القوميون العرب وعود مكماهون في رسائله أنها عهد بالاستقلال الفوري للعرب.

لكن هذه الوعود خرقتها فرنسا وبريطانيا بتقسيم المنطقة باتفاقية سايكس - بيكو السرية في أيار/ مايو من عام ألف وتسعمئة وستة عشر (التي كشف عنها عام ألف وتسعمئة وسبعة عشر مع وصول الشيوعيين إلى الحكم في روسيا)، وانتداب عصبة الأمم للدولتين على المنطقة.

وعلى الرغم من أن وعد بلفور قد شكل تناقضاً واضحاً للنتائج التي تمخضت عنها مراسلات مكماهون والشريف حسين، إلا أن معاهدة سايكس ـ بيكو هي التي أعطيت الأولوية في التنفيذ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مباشرة. وقد مُنحت هذه المعاهدة المشروعية الدولية عندما صدّقت عصبة الأمم في الرابع والعشرين من تموز/ يوليو عام ألف وتسعمئة واثنين وعشرين ميلادي على الانتداب البريطاني لفلسطين وشرق الأردن، الذي عنى في نتائجه تمكين بريطانيا من الوفاء بوعدها تجاه الصهاينة. وقد كان وعد بلفور هو التأييد الرسمي الأول من إحدى القوى العظمى للادعاءات الصهيونية في فلسطين، وكانت مقدمة التنفيذ لوعد بلفور قد بدأت في عهد الانتداب البريطاني، حيث جعلت بريطانية اللغة العبرية من اللغات الرسمية في فلسطين، ومنحت اليهود الحرية الكاملة في إنشاء مدارس يهودية وجامعة عبرية. كذلك عينت بريطانيا أحد اليهود الصهاينة، هو هربرت صمويل، مندوباً سامياً في فلسطين. وقد سعى هذا بدوره إلى إلحاق أعداد كبيرة من اليهود بالدوائر الحكومية وتمليك الصهاينة الأراضي الفلسطينية، ووضع اقتصاديات فلسطين تحت تصرف اليهود، وطالب أيضاً بتهجير ثلاثة ملايين يهودي إلى فلسطين، فأصدرت بريطانيا قانون الهجرة لتنفيذ هذا الأمر. ويلاحظ أنه حينما دخلت بريطانيا إِلى فلسطين، كان عدد اليهود ستة وخمسين ألفاً، وحينما غادرتها كان عددهم سبعمئة وخمسين ألفًا، وهذه الهجرة تصدى لها الشعراء وفضحوها، ومنهم إبراهيم طوقان الذي قال (الطويل):

يهاجرُ ألفٌ.. ثم ألفٌ مُهَرَّباً

ويدخل ألفٌ سائحاً غيرَ آيبِ

وألفُ (جوازٍ) ثمَّ ألفُ وسيلةٍ

لتسهيلِ ما يَلْقَوْنَهُ من مَصاعِبِ

وفي البحرِ آلافٌ.. كأنَّ عُبابَهُ

وأمواجَهُ مَشحونةٌ في المَراكِبِ

وهكذا رأينا أن وعود بريطانيا لليهود كانت تنجزها بسخاء وتسعى سعياً حثيثاً لتحقيقها، بينما ضربت بوعودها للعرب عرض الحائط، ولم تكتف بذلك، بل بذلت جميع جهودها الدبلوماسية والعسكرية لتمكين اليهود من الاستيلاء على أرض فلسطين في الوقت الذي كانت تدعي أنها تسعى إلى حصول العرب على استقلالهم في أرض واحدة، وقد تصدى الشعراء لهذا الظلم والتحايل، فنسيب عريضة صوّر هذه الحالة تصويراً دقيقاً حين قال (المتقارب):

أَحرَّرْتُمونا لِتَستَعبِدوا

أيسترهِنُ العبدَ من أعتَقهْ

خَفَرتُم عهودَ الوَلاءِ الجَميلِ

لوَعدٍ لِبِلفُورَ قد لَفَّقهْ

فلِلهِ من حُبِّكمْ من رِياءٍ

ومن وعدِ بِلفورَ من مَخرَقَهْ

ذَبَحتمْ فِلَسطينَ يا وَيحَنا

أَبَحتُمْ حِماها لمُسترزِقَه

أكانتْ مَواعيدُهم حِكمةً

وكانت مواعيدُنا زَندَقَه

وفي الرابع عشر من أيار/ مايو عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين أعلن اليهود من جانب واحد قيام دولة إسرائيل، وقد رفضت الحكومات العربية الاعتراف بهذه الدولة. واندلعت مباشرة الحرب بين العرب والدولة الصهيونية، وقد انتهت تلك الحرب بهزيمة للجيوش العربية، وكانت حقاً نكبة واجهها الفلسطينيون والعرب جميعاً. وقد نتج من تلك الحرب تشرد ما يقارب سبعمئة وخمسة وسبعين ألف شخص من الشعب الفلسطيني إلى الأقطار العربية المجاورة.

إن وعد بلفور من أساسه ليس قانونياً؛ فهو وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق، وكيف لبريطانيا أن تمنح أرضاً هي أصلاً ملك للفلسطينيين من أعماق التاريخ لشراذم تجمعت وتكتلت من أنحاء أوروبا بدعوى الحق الديني في أرض فلسطين؟

وقد ظهر التناقض الواضح بين سلوك السلطات البريطانية والجماعات الصهيونية وبين ما تضمنه الوعد في الفقرة التي تقول: "ولا بد أن يكون مفهوماً بجلاء أنه لا يمكن عمل شيء مجحف بالحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية في فلسطين"؛ فالنهج الذي اتبعته السلطات البريطانية من تسهيل هجرة اليهود وتمكينهم من تملك أراضي الفلسطينيين هو بلا شك إجحاف بحق أصحاب الأرض الأصليين، ثم يتبع ذلك إغماض هذه السلطات عينيها عمّا انتهجه اليهود من تشكيل عصابات الأرغون والهاغاناه والشتيرن الإرهابية المسلحة التي كانت تعتدي على القرى الآمنة، فتروّع الفلسطينيين وترتكب المجازر بحقهم بهدف التهجير القسري، في الوقت الذي كانت بريطانيا تُعدم أي عربي تجد في حوزته رصاصة واحدة بتهمة الإرهاب.

هذا كله عن الحقوق المدنية للشعب. أما الحقوق الدينية، فما نال الشعب فيها من الهدر، لا يقل عمّا نال الحقوق المدنية؛ فقد تعرض كثير من المساجد للهدم أو الإغلاق أو حولت إلى نوادٍ للمحتلين وحرم المسلمون ممارسة شعائرهم فيها، والأذى الأكبر وقع على المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، واستمر الصهاينة بالعدوان عليه بعد خروج بريطانيا، وقد تعرض للإحراق، ولا يزال يتعرض لاعتداءات الصهاينة حتى يومنا هذا من حفريات تهدده بالسقوط بحجة البحث عن هيكلهم المزعوم.

لقد كان تحقيق وعد بلفور على جماجم الفلسطينيين ودمائهم، تحت مرأى ومسمع من دولة تدّعي الحضارة والديموقراطية، تساعدها الدول الغربية، بعضها سرّاً وبعضها جهراً، فعبّر الشعراء عن يأسهم وخيبة أملهم بهذه الدول الظالمة، حتى قام الشاعر حسن البحيري رحمه الله – وهو ممن عايشوا تلك المرحلة الرهيبة – يقول (الكامل):

لم يُنجِبِ الغربُ ابنَ أنثى صالحاً

ولوِ اغتدى وبكفّه الإصلاحُ ♦