مجلة العودة

فلسطينيو لبنان.. حضنٌ وحصن

طارق حمود / لندن
 
منذ بداية الأحداث في سورية، كان فلسطينيوها على أعتاب مرحلة جديدة، مختلفة بكل المقاييس عن ستة عقود مضت، شعر الفلسطيني بفطرته التي نمت مع المعاناة، بأنه في مهبّ ريح جديدة، وأن قابل الأيام يحمل له خلاف سالفها، ومنذ اللحظات التي سقطت فيها قذائف الحقد على مخيم درعا، كان أهالي المخيم يبحثون عن طريق الخلاص، إذ شاركوا أشقاءهم السوريين مأساتهم في جزئها الأول داخل سورية، أما الجزء الباقي خارجها في خيام اللجوء، فقد سجل فيها الفلسطينيون مأساتهم بما اعتادوه طوال معاصرتهم لأنظمة الذل العربي.دخلوا إلى الأردن عنوةً عبر الشريط الشائك، بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فسجِنوا في أماكن معزولة خاصة بهم، وبخلاف الأشقاء السوريين من لاجئين هناك، كان الفلسطينيون يسجلون مأساةً أخرى، وسطراً جديداً من سطور العار في دول العرب، حتى غدا جحيم الزعتري في شمال الأردن، حلماً للاجئ الفلسطيني الفارّ من ذلّ إلى ذلّ.

أما على صعيد لبنان، حيث لم يختلف وضع الفلسطينيين من سورية إليها كثيراً عن أي بلد مجاور آخر على الصعيد الرسمي، إلا أنهم وجدوا حضناً أدفأ بكثير من خيام الحكومات التي ضنّت بها عليهم حكومة لبنان، فكانت مخيمات لبنان بأهلها حضناً وحصناً بنفس الوقت، ومن جديد يسجل تاريخ النكبة الفلسطينية ملحمةً جديدةً، في احتضان الأشقاء لبعضهم، فمخيمات لبنان بكل ما فيها من بؤس، وكل ما تستحقه من أدنى حياة، كانت البيت الواسع للأشقاء، ولم يجد فلسطينيو سوريا، بل وقسم من أشقائهم السوريين مكاناً على امتداد لبنان أرحب من مخيماته.

في مخيمات لبنان اتسعت بيوتُ آيلة للسقوط لعائلتين أو أكثر، وتقاسم الأهل والأحباب رغيف الخبز، وفراش المنزل، وسطرت هيئات ومؤسسات العمل الإغاثي هناك رواية جديدة من العمل الإنساني والوطني، بل بات الشغل الشاغل لأهلنا في لبنان متطلبات الضيوف واحتياجاتهم. ولي تجربة، بل تجارب شخصية مع شهامة فلسطينيي لبنان، بتلبية النداء، وإغاثة الملهوف، وإيواء الشريد والطريد، ولكن حتى في هذه المخيمات، التي حولها دفء العلاقة إلى رحاب تتسع وتتسع، لم تسلم من عنصرية البعض اللبناني، وخصوصاً عندما يكون هذا البعض ممن غمّست إيديهم بالدم الفلسطيني يوماً ما، وتحت مبررات أقل ما يقال فيها أنها غير أخلاقية ولا وطنية، جاءت تصريحات ميشال عون وصهره، لتنمّ عن سوداوية الأجواء التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني في لبنان. الفلسطينيون الذين كانوا طوال ستة عقود مادة للاستهلاك الإعلامي والشعاراتي، لم يجدوا من يستنكر العنصرية الموجهة ضدهم في لبنان، لكن بقي المخيم بما يحمله من كينونة وطنية وأخلاقية أيضاً، رمزاً للوطن المعنوي، الذي لا يشعر الفلسطيني بهويته إلا فيه، ما دام خارج فلسطين.

لقد عانى أهلنا في لبنان ويلات التهجير، وكانت لهم محطات مؤلمة فيها، وخصوصاً في عقد الثمانينيات، حين كانت العنصرية فعلاً لا مجرد تصريحات من أصحابها في لبنان. ولا يزال فلسطينيو لبنان إلى اليوم يتجرعون مرارة الحرمان، وتأثيرات تلك المرحلة التي لم يمحها التاريخ من ذاكرته بعد، ولن يمحو كذلك هذه المرحلة بشقيها، البائس على مستوى الأنظمة والحكومات، والمشرق على مستوى الشعوب. وفي شقه المشرق سيسجل التاريخ شهادته لفلسطينيي لبنان، الذين جعلوا من بؤس حياتهم رغداً لأشقائهم الفلسطينيين من سورية، وجعلوا من حميميتهم الوطنية الغطاء الدافئ في برد الشتاء. وها هو القدر من جديد يجمع الشتيتين في بيت واحد، ومخيم واحد، وكأنه يردد أن المصير واحد؛ فرغم اختلاف التشريعات التي حكمت فلسطينيي سورية، واختلافها عن التشريعات التي حكمت فلسطينيي لبنان، ها هم تحت سقف المصير الواحد؛ فمهما اختلفت الظروف بين مخيم وآخر، يبقى ساكنه هو نفسه، هو ذاك الفلسطيني الذي نذر نفسه للجوء، والمعاناة بانتظار لحظة العودة الآتية في وعيه لا محالة.

في سورية، عندما استقبل أهالي مخيمات اليرموك وخان الشيح ودنون وغيرها النازحين السوريين في بيوتهم، ثم في حالة اللجوء باتجاه لبنان واحتضان المخيمات هناك للفلسطيني والسوري على حد سواء، مع تنكر حكومي فاضح، كانت الدلالة، أن طريق الإنسانية، وطريق الأخلاق، والوطنية، ليس مرتبطاً بشكل ومكان معينين، بل هو مرتبط بإنسان معين، يدرك معنى المعاناة والجوع والتشرد، سواء بممارستها أو دونها؛ فالمخيمات بما عايشت من معاناة ومأساة، وبما لديها من مخزون وطني، ممتلئ بالتجربة والخبرة، وقبلها ممتلئ بالشعور والإحساس الإنساني، بهذا تكون المخيمات بمختلف توزعها الجعرافي طريقاً نحو الوطن، وطريقاً نحو الكرامة التي شاهدوها منذ اللحظة الأولى مع أشقائهم في سورية في درعا، وحمص ودوما.

ستروي يوماً ما مخيمات لبنان بوضعها المأساوي، روايات الحب لأصحاب القصور، وستحكي للحكومات العربية حكايات الوطنية كيف تصنعها الشعوب التي تآلفت، وما ألفت عارهم وذلهم. ستحكي المخيمات في سورية يوماً ما، كيف أن المخيم بقي هو الوطن معنىً، سواء في سورية أو في لبنان، وسيروي أطفال الفلسطينيين في سورية عن علاقات الصداقة التي نسجوها مع أشقائهم في مخيمات لبنان يوم كانوا لاجئين فيها، سيروونها على أرض فلسطينية لا مخيمات فيها، وسيروى معها قصص الاغتراب عن الوطن العربي، التي فرضتها أنظمة البؤس فيه، وقصص المتاجرة بشعارات القضية وأبنائها.

وختاماً سيروي لنا اليرموك يوماً عن عين الحلوة، وسيخبرنا مخيم السبينة عن البداوي، والحسينية عن برج البراجنة... في روايات التاريخ التي ستكتب فصولها بنبض الشعوب الحرة، التي آثرت التشرد على الذل تحت بساطير الديكتاتوريات.