مجلة العودة

في الذكرى السنوية للنكبة الفلسطينيةلماذا هجر الفلسطينيون أرضهم؟!

في الذكرى السنوية للنكبة الفلسطينية
لماذا هجر الفلسطينيون أرضهم؟!


فادي سلايمة - دمشق


قال الإسرائيلي موشي كرميئيل يصف هجرة الشعب الفلسطيني:
"إنهم يهجرون قراهم، موطنهم وموطن أجدادهم، ويذهبون إلى المهجر، إلى أماكن غريبة مجهولة كثيرة المعاناة نساءً وأولاداً وأطفالاً وبهائم. الكل يتحرك صامتاً، ومولولاً أحياناً إلى الشمال دون الالتفاف إلى الجنب. المرأة لا تجد زوجها، والولد لا يستطيع العثور على والده. الكل يهرب، ولا يعرف إلى أين هو ذاهب. أثاث وحوائج كثيرة مبعثرة على جوانب الطريق، فكلما طالت مسافة طريق اللاجئين، ونفد صبرهم، وخارت قواهم، ألقوا أمتعتهم وأشياءهم التي حاولوا في بداية الأمر إخراجها من بيوتهم؛ إذ فجأةً أصبح كل شيء في نظرهم تافهاً لا قيمة ل?، قياساً إلى الخوف الذي يطاردهم ورغبتهم في إنقاذ حياتهم".
هنا، عمد الإسرائيليون وأنصارهم، تبريراً لجريمة "النكبة الفلسطينية"، إلى اختراع الأسطورة القائلة إن رحيل أبناء هذه القرى والمدن الفلسطينية، لم يحصل إلا بسبب جبن في نفوسهم، أو إنهم مثل المقاتل الجبان الذي يلقي سلاحه!! بل أخذوا يشنون عليهم حرب الشائعات التي تشوّه ماضيهم وحاضرهم، وتقلّل من قدر جهادهم واستبسالهم.
والحقيقة أن شعب فلسطين (شعب الجبارين) كان ضحية تآمر الحكام الخونة من العرب مع سادتهم الإنكليز على حرمان أصحاب الدار حقّ الدفاع عن دارهم. وشعب فلسطين هو أقدر العرب على الدفاع عن وطنه والذود عن حماه، "وأهل مكة أدرى بشعابها". والمستعمرون يعلمون هذا جيداً، فحاربوا فكرة إشراك الفلسطينيين في المعركة، وحاربوا فكرة تسليح الفلسطينيين، وما زالوا يحاربونها حتى يومنا هذا.
وبسبب فقدان العتاد والسلاح، وما كان يخشاه الأطفال والنساء والشيوخ من أن تستمر أمثال مذبحة دير ياسين في أماكن أخرى، بعد أن انعدمت الحماية لهم بسبب فقدان السلاح، لم يجد الشعب الفلسطيني غير الرحيل منفذاً، كما سنرى.
•المؤامرة البريطانية بعدم تسليح الشعب الفلسطيني:
لقد بدأ اليهود استعدادهم منذ عام 1945 حسبما ورد على ألسنة قادتهم، فأخذوا يتسلحون بشتى أنواع الأسلحة من طائرات ودبابات ومدفعية وبنادق وذخائر يأتون بها إلى ميناء حيفا بحراً، وإلى مطار أقاموه في النقب جواً، ومن مخازن الحكومة البريطانية جهاراً وخفية.
وأقرب مثل على ذلك، ما فعلته حكومة الانتداب في كانون الثاني 1948 حين باعتهم 20 طائرة Auster، بينما هي أصدرت في تلك الفترة عدة قوانين ضد الفلسطينيين، واتخذت الأحكام الصارمة تجاه من وُجدت بحوزته أسلحة أو ذخيرة، وكان من هذه القوانين: "6 سنوات حبس لحيازة مسدس، 12 سنة لحيازة قنبلة، 5 سنوات مع الأشغال الشاقة لحيازة 12 رصاصة، 18 شهراً بتهمة تضليل فريق من الجند عن الطريق، 9 سنوات بتهمة حيازة مفرقعات، 5 سنوات لمحاولة شراء ذخيرة من الجنود، وأسبوعا حبس لحيازة عصا".
وبسبب تلك السياسة الظالمة، لم يجد الفلسطينيون من وسيلة للتسلح إلا الطرق الخاصة والجهد الفردي؛ فقد أخذ بعض الحرفيين المهرة يصنعون البنادق بأيديهم، فكانوا يخرطون فوهاتها في حيفا ويشذّبون مقابضها الخشبية بأيديهم، ثم يصقلونها ويحسّنونها، فتصبح بنادق حقيقية تصلح للقتال ضد أعدائهم.
كذلك اضطر الكثيرون إلى بيع مصوغات زوجاتهم أو بيع الحبوب التي كانوا يحتفظون بها للزراعة أو حتى بيع المواشي، ثم ترك العمل والذهاب إلى الأردن أو سورية أو لبنان أو مصر لمدة تزيد على عشرة أيام لإحضار السلاح من تجار السلاح ومن طريق التهريب.
ثم صار الموظفون الفلسطينيون في البوليس الإضافي وقوة الحدود التابعة لحكومة الانتداب، (يعلنون انشقاقهم) ويهربون بأسلحتهم وبنادقهم، ويعودون إلى قراهم ومدنهم، ليدافعوا عنها.
• المؤامرة العربية بعدم تسليح الشعب الفلسطيني:
في مؤتمر بلودان 1947، الذي كان فيه الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، ممثلاً عن الشعب الفلسطيني والثورة الفلسطينية يطالب دول الجامعة بإلحاح وإصرار، ألّا تدخل جيوشها إلى فلسطين وأن تكتفي فقط بتسليح الشعب الفلسطيني؛ لأنه كان يعلم بأن بعض حكام الدول العربية الخاضعة آنذاك لبريطانيا موافقون على قيام دولة (إسرائيل) على أرض فلسطين، وأنهم داخلون باسم تحرير فلسطين لتنفيذ التقسيم.
رفضت الجامعة العربية طلب المفتي، وشكلت جيش التحرير العربي (جيش الإنقاذ)، وهو جيش غير نظامي بقيادة فوزي القاوقجي.
في الوقت نفسه، أعلن الحاج أمين الحسيني دخول جيش الجهاد المقدس ساحة الأعمال القتالية، وهو من المتطوعين الفلسطينيين بقيادة عبد القادر الحسيني.
لكنّ المشكلة الرئيسية التي كانت تعانيها قوات الجهاد المقدس هي مسألة التسلّح؛ فقد أوفدت الهيئة العربية العليا لهذا الغرض مبعوثها إلى لبنان وسورية، بل ذهب بعضهم إلى حدود تركيا لشراء السلاح من المهرّبين، ثم أرسلت رسلها إلى ليبيا لشراء السلاح المتخلف من معارك الحرب العالمية الثانية في صحراء السلوم والعلمين، ثم تنظيفه وإصلاحه وتجهيزه للاستعمال. كذلك بعثت مندوبيها إلى فرنسا وبلجيكا وتشيكوسلوفكيا وسويسرا للغرض نفسه، لكن جميع المساعي فشلت تقريباً بسبب عراقيل اليهود وبريطانيا حيناً، وبسبب عراقيل العرب ونقص المال أح?اناً أخرى.
سمع أهالي قرى الجليل بوصول متطوعين من سورية بقيادة أديب الشيشكلي، فذهب وفد من أهالي القرى لمقابلته وطلب المساعدة لإمدادهم بالذخيرة. في المقابلة شرح الوفد موقف القرى وخطورته وأنهم بحاجة إلى الذخيرة فقط: "إننا لا نريد سلاحاً ولا رجالاً، بل نريد ذخيرة فقط". اعتذر أديب الشيشكلي عن عدم تلبية الطلب، وقال: "لو كانت أصابعي تصلح ذخيرة لقطعتها!!".
حتى إن القائد عبد القادر الحسيني نفسه سافر إلى دمشق، طالباً الأسلحة والذخائر من جيش الإنقاذ، إلا أن طه الهاشمي رفض الطلب، قائلاً بنصف عربية ونصف تركية: "نحن لا نقدم الأسلحة للباش بوزوك!!" أي للعصابات المسلحة.
وجاء في المذكرة التي أرسلها القائد الحسيني إلى الجامعة العربية يوم 6 نيسان 1948:
"مذكرة:
السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية/ القاهرة
إني أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح
عبد القادر الحسيني"
وفي اليوم التالي استشهد بسبب فقدان السلاح ثم سقط القسطل في أيدي الأعداء...
وبعد 48 ساعة وقعت "مذبحة دير ياسين" في 9 نيسان 1948، ولم يكن بيد رجال الهيئة العربية العليا الموجودين في القدس مبالغ تكفي لشراء ما يحتاجون إليه من سلاح وعتاد. وسمع الناس الدكتور حسين فخري الخالدي الأمين العام للهيئة العربية العليا، وهو يقول إثر سقوط القسطل ودير ياسين: "ماذا أعمل لكم؟ إنني والله لا أملك سوى مسدسي هذا!!".
ومما يؤسف له حقاً، أنّ أحد أهالي دير ياسين توجه إلى عين كارم عندما نفدت ذخيرته، عارضاً ابنته للزواج في مقابل الذخيرة، فلم يعثر على مستجيب. كذلك كان فريق من جيش الإنقاذ يرابط يومئذٍ في عين كارم. وكان عدد هذا الفريق ينوف على المئة، كلهم من السوريين والعراقيين، فلم يركض هؤلاء أيضاً لإغاثة دير ياسين، لا، ولا زودوا المقاتلين الفلسطينيين بالذخيرة والعتاد.
كانت مأساة إبعاد شعب فلسطين عن المعركة ثالثة الأثافي؛ إذ إن معظم القرى والمدن التي كانت في معارك مواجهة مع اليهود لم تعد تتلقى أية إمدادات من الخارج، وكان معظم المقاتلين قد فقدوا تماماً ذخيرتهم. وما كاد الفلسطينيون يسمعون بهول مذبحة دير ياسين، حتى بدأت عملية الهروب من القرى الفلسطينية القريبة من المستعمرات اليهودية، فشملت هذه العملية هروب أكثر من 700 ألف فلسطيني، وفاجعة يسميها الفلسطينيون "النكبة".
(*) كاتب وباحث فلسطيني، متخصص في التاريخ الشفهي الفلسطيني، وعضو في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين. ♦